الدولة في المراحل الثورية هذا المقال هو نص البحث الذي قدمه الكاتب في إحدى الندوات الداخلية الحزبية بعد إجراء بعض التعديلات والإضافات. دورية بسوى سوسياليسم موضوع البحث الحالي هو "الدولة في المراحل الثورية". وتحت هذا العنوان سنتطرق الى أحد جوانب النظرية الماركسية حول الدولة، أو بعبارة أخرى المنهج الماركسي في تعامله مع ظاهرة الدولة والذي يضيع ويتم تناسيه عادةً في ظل جملة من الأحكام الكليشية حول الدولة. وبعد الطرح العام للقضية، ستتم الإشارة فيما بعد بشكل أكثر تحديداً الى المواضيع التالية كنماذج لتطبيق هذا المنهج. أولاً: قضية الجمهورية الثورية في برنامج الحزب الشيوعي. ثانياً: الموقف من الجمهورية الإسلامية، حيث سيتم التأكيد المجدد في البحث الراهن على بعض النقاط التي تمت مناقشتها سابقاً في مقال "جناحان في الثورة البرجوازية-الإمبريالية المضادة". ثالثاً وأخيراً: الدولة في الثورة البروليتارية وقضية دكتاتورية البروليتاريا.
الدولة في المراحل الثورية النظرية الماركسية حول الدولة و"المراحل الانتقالية"
وكما قلت فان هذه النقاط هي اليوم جزء من البديهيات ولن أقوم هنا بتوضيحها أكثر، خصوصاً وأن بحثي هو في الأساس في انتقاد التعميم الميكانيكي والكليشي لهذه التعريفات على مجمل تفاصيل عملية التكامل التاريخي للمجتمع وخصوصاً على "المراحل الثورية". ومن النظرة الأولى يبدو واضحاً أن التعريفات الماركسية الوارد ذكرها فيما تقدم عن الدولة تأخذ بنظر الاعتبار الحركة الروتينية للمجتمع. فهذا التعريف والتحليل للدولة في الأوضاع "الروتينية"، أي المراحل التي لا يكون فيها المجتمع بصدد التحول الثوري. وأذكِّر أن المادية التاريخية ليست الجمع العددي لخمسة تصورات جامدة عن خمسة أنماط إنتاجية "تقليدية" (المشاعية البدائية، العبودية، الإقطاعية،الرأسمالية، والشيوعية). هذا في الواقع هو مسخ وتشويه ميكانيكي للمادية التاريخية من قبل التحريفيين. فمادية ماركس التاريخية ليست فقط تحليل أساليب الإنتاج المختلفة وإعلان إحلال بعضها محل البعض الآخر في مسار تاريخي متتابع، بل تشتمل أيضاً على تحليل ديناميكية مسار التحول هذا وخصائص مراحل التحول أيضاً. كيف تحل أساليب الإنتاج هذه وبأية عملية تاريخية محل بعضها البعض؟ لو أخذنا هذه الديناميكية بنظر الاعتبار، حينذاك سندرك أن جزءاً أساسياً من التفسير المادي للتاريخ، هو فهم خصائص المراحل الانتقالية، مراحل التحول، بين العلاقات الإنتاجية التي تشكل كل واحدة منها لمراحل طويلة الشكل التقليدي والمعاد إنتاجه للنشاط الاقتصادي والحياة الاجتماعية للبشر. بعبارة أخرى فان أساليب الإنتاج لا تترك محلها لبعضها البعض بشكل مفاجئ وبدون مقدمات. فلا الإقطاعية تترك مكانها للرأسمالية بشكل مفاجئ وبدون مقدمات ولا الشيوعية ستحل محل الرأسمالية بنفس الشكل. تحليل المراحل الانتقالية ومراحل التحول الثوري في المجتمع، هي بنفس الدرجة جزء من الرؤية المادية للتاريخ حالها حال تحليل الأنماط التقليدية للإنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية للبشر. وقد طرح ماركس هذا الموضوع بشكل واضح في "مقدمة في نقد الاقتصاد السياسي":
في مرحلة معينة من تطورها تتناقض قوى الإنتاج المادي للمجتمع مع العلاقات الإنتاجية القائمة أو بعبارة أخرى (حيث أن هذا هو التعبير الحقوقي لنفس الأمر) مع علاقات الملكية التي سبق وأن عملت تلك القوى في إطارها. وستتحول (هذه العلاقات الموجودة) من إطار لنمو قوى الإنتاج الى عقبة في طريقها، حينذاك ستبدأ مرحلة من الثورة الاجتماعية
وسأشير فيما بعد أنني أستخدم طوال هذا البحث مفهوم "المراحل الثورية" بمعناه المحدود وليس للدلالة على كل مراحل التحول الثوري للمجتمع، أي المرحل الانتقالية التي يشير إليها ماركس. ولكنني في الحقيقة آخذ بنظر الاعتبار نفس المعنى الأوسع ونعود مجددً الى الصيغة الواردة سابقاً لتعريف الدولة. فهل بالإمكان استخدام هذا التعريف بنفس الشكل لتوصيف خصائص وماهية الدول (كل الدول) طوال هذه المراحل الثورية؟ بعبارة أخرى هل تتطابق صيغة "الدولة هي أداة سيادة الطبقة السائدة اقتصادياً" مع خصائص ومشخصات المراحل الانتقالية الثورية؟ بالضرورة، كلا. فموقف الفوضويين من دكتاتورية البروليتاريا وكذلك موقف منظمات من مثل الوحدة الشيوعية إزاء مقولة الجمهورية الثورية، هي النماذج الحية للمأزق النظري لأشخاص لم يتعلموا من الموقف الماركسي إزاء الدولة سوى صيغة واحدة يكررونها في كل الظروف والأوضاع. دكتاتورية البروليتاريا، على سبيل المثال، هي دولة مرحلة انتقالية. ولكن هل أن دكتاتورية البروليتاريا هي دولة طبقة سائدة اقتصادياً؟ من الواضح أن الأمر ليس بهذا الشكل. إنها دولة طبقة انتفضت على الطبقة المستغِلة المسيطرة على الإنتاج. دكتاتورية البروليتاريا لا تستند منذ البداية على اقتصاد المجتمع القائم، وليست ممثلة لطبقة سائدة اقتصادياً على الطبقات الأخرى. بل أن الأمر بالعكس تماماً، فهي دولة ضد الاقتصاد القائم. وفي الواقع فان هذه الدولة تعجز تماماً حتى في مستقبلها عن التحول الى أداة سيادة طبقة في علاقات اقتصادية طبقية محددة. فالثورة الاشتراكية هي ثورة ضد الطابع الطبقي للمجتمع والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج وضد الاستغلال الطبقي نفسه. والاقتصاد الجديد الذي يكون حصيلة هذه الثورة مرادف لنفي فلسفة وجود الدولة بشكل عام. الثورة الاشتراكية هي ثورة ستقضي على الدولة بالتزامن مع القضاء على التقسيم الطبقي للمجتمع أيضاً. ولكن إذا لم تكن دكتاتورية البروليتاريا أداة الحفاظ على علاقات الإنتاج الطبقية القائمة الآن، إذا لم يكن مقرراً أن تكون هذه الدكتاتورية بناءاً فوقياً سياسياً متطابقاً مع ملكية طبقة معينة لوسائل الإنتاج، إذن ما هي فلسفة وجودها؟ أو بعبارة أخرى كيف يوضح "التحليل الماركسي" للدولة دكتاتورية البروليتاريا. إن قسماً مهماً من كتاب لينين الدولة والثورة يختص بالجدال مع التصورات الفوضوية التي ترفع قامتها ضد دكتاتورية البروليتاريا بفهم ميكانيكي وميتافيزيقي عن حركة المجتمع التاريخية، وبالعجز عن تعميق فهمها للدولة أكثر من تعريف "الدولة التقليدية". فإذا كانت الثورة الاشتراكية مرادفة لزوال الطبقات ومن ثم الدولة، وإذن ما هو دور دكتاتورية البروليتاريا في هذه الأثناء؟ وهنا يكشف لينين النقاب عن "جانب آخر" من النظرية الماركسية حول الدولة. فدولة دكتاتورية البروليتاريا لا تُستنتج من "الاقتصاد" بحد ذاته، بل من السياسة ومن الصراع الطبقي، وهذا هو محور التحليل الماركسي للدولة في المراحل الثورية:
"في
البيان الشيوعي يتم طرح تصور شامل عن التاريخ يضطر الإنسان للنظر الى الدولة
بمثابة هيئة السيادة الطبقية وهذا ما يوصله بالضرورة إلى هذه النتيجة وهي أن
البروليتاريا تعجز عن إسقاط البرجوازية إلا إذا أمسكت في البداية بزمام السلطة
السياسية واستبدلت الدولة بـ"البروليتاريا المنظمة بمثابة طبقة سائدة"؛ وستتجه
هذه الدولة البروليتارية مباشرة بعد الانتصار نحو الاضمحلال والزوال، لأن في
المجتمع الخالي من التناقضات والتضاد الطبقي ليس هناك من ضرورة للدولة وتعجز عن
البقاء والوجود. وهنا لم تطرح هذه القضية وهي كيف يتم من ناحية التطور التاريخي
استبدال الدولة البرجوازية بالدولة البروليتارية" وهنا يوجه لينين اهتمامه صوب تلك الفترة من تاريخ البشر التي تبدو في "تصور شامل" عن التاريخ كـ"نقطة"، كموضع لالتقاء نظامين، كمقطع لاستبدال دولتين موقعيهما. وهذه هي المراحل الانتقالية بعينها. وتتمتع هذه المراحل بأهمية بالغة في التحول التاريخي. ففي هذه المراحل، أي طوال العملية الطويلة نسبيا لاستبدال نظامين أحدهما بصدد التغير والآخر الذي ما زال لم يقم بعد، أية ظاهرة هي الدولة؟ هذا هو الجانب من النظرية الماركسية حول الدولة الذي يتم نسيانه وإهماله في المنظومة الميكانيكي للتحريفية، وتبعاً لذلك لدى القسم الأعظم من اليسار في إيران:
"إن
شخصاً استوعب تعاليم ماركس حول الدولة هو الذي يكون مدركاً أن دكتاتورية طبقة
معينة ضرورية ليس فقط لكل مجتمع طبقي بصورة عامة،.. بل وحتى أيضاً لمراحل
تاريخية كاملة تفصل الرأسمالية عن "المجتمع الخالي من الطبقات" أي الشيوعية.
فقط تنوعت أشكال الدولة البرجوازية بشكل استثنائي ولكن جوهرها يظل واحداً.
وأياً كان شكل تلك الدول إلا أنها في جوهر الأمر تمثل حتماً دكتاتورية
البرجوازية. وبالتأكيد ستنتج مراحل الانتقال من الرأسمالية الى الشيوعية
أشكالاً سياسية متنوعة ومختلفة، إلا أن ماهيتها ستكون شيئاً واحداً، ألا وهي
دكتاتورية البروليتاريا" دكتاتورية البروليتاريا هي الدولة المتناسبة مع تلك "المراحل التاريخية" المحددة، أي المراحل الانتقالية الثورية. دكتاتورية البروليتاريا هي دولة ضد الاقتصاد الرأسمالي وهي في نفس الوقت دولة ليست متطابقة مع الاقتصاد الشيوعي لأن هذا الاقتصاد الجديد لا يستند على التقسيم الطبقي ومن ثم هو ليس بحاجة الى الدولة بمثابة قوة قمع وإخضاع. هذه الدولة، هي الدولة الفاصلة للتاريخ بين هذين "الاقتصادين" ولذلك تكتسب ضرورتها وفلسفة وجودها وخصائصها لا من الاقتصاد والبنية التحتية الاقتصادية مباشرةً، بل من مكان آخر: من الثورة، من الصراع الطبقي الذي يتحول الى المسار الأساسي والحاسم للعلاقات المتضادة للطبقات الاجتماعية طوال مرحلة التحول الثوري. دكتاتورية البروليتاريا هي دكتاتورية، ولكنها ليست من أجل الحفاظ على علاقات إنتاجية وطبقية محددة وقائمة، بل من أجل إحباط المقاومة المضادة للتغيير الثوري لتلك العلاقات:
"الدولة
(قوة خاصة من أجل القمع).. ..ولكن ما يُستنتج من هذا التعريف هو "قوة خاصة
لقمع" البروليتاريا بيد البرجوازية، وينبغي استبدال قمع ملايين الكادحين من قبل
المتسلط بـ"القوة الخاصة لقمع" البرجوازية بيد البروليتاريا (أي دكتاتورية
البروليتاريا). وهذا يعني أيضاً (زوال الدولة بوصفها دولة). ويعني "الإقدام"
على تملك وسائل الإنتاج باسم المجتمع، ومن الواضح أن مثل هكذا استبدال لـ"قوة
خاصة" (البرجوازية) بـ"قوة خاصة" أخرى (البروليتاريا) لا يمكن أن يتحقق بصورة
"اضمحلال" وهنا نواجه مفهوماً أعم لمقولة الدولة، وهو في نفس الوقت أكثر بساطة وأشمل. الدولة "قوة قمع خاصة" للقمع الطبقي. وهذه هي الخاصية المشتركة لكل دولة، سواء كانت دولة تقليدية أو دولة مرحلة انتقالية. ففي الأوضاع الروتينية حيث يجري إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية للبشر ضمن إطار علاقات إنتاجية معينة أو بعبارة أبسط يكون "الاقتصاد" المحور الحاسم في العلاقات والتأثيرات المتبادلة للطبقات الاجتماعية، تمارس الدولة دورها القمعي في الأساس ارتباطاً بالحفاظ على العلاقات الإنتاجية الموجودة في خدمة الطبقة السائدة اقتصادياً. ولكن في المراحل الانتقالية فان هذا لا يشكل العنصر الحاسم في تحليل الدولة، لأن تناقضات العلاقات الاقتصادية القائمة، هي بحد ذاتها تطرح عاملاً جديداً في العلاقات بين الطبقات يسلط الضوء على كل شيء، أي الثورة وصراع الثورة والثورة المضادة. وهنا تشكل الدولة وسيلة لحسم هذه القضية. إن الدولة في المراحل الانتقالية تعمل بمثابة دولة بالقدر الذي يتم استخدامها فيه كوسيلة لحسم وتحديد مصير هذه القضية، أي الثورة. وهنا فان الدولة لا تشكل أداة سياسية للحفاظ على السيادة الاقتصادية، بل أداة سياسية للحفاظ على أو ترسيخ السيادة السياسية. وإذا كان ظهور الدولة قد تبلور تاريخياً مع ظهور تراكم الثروة والاستغلال، إذا كانت الدولة في مجتمع روتيني، في مجتمع "في حالة إنتاج" ضمانة تأمين السلطة الاقتصادية، فإنها في المراحل الانتقالية ترتبط مباشرة بالصراع الطبقي المتنامي لدرجة الثورة. ويبين لينين بوضوح ضرورة دكتاتورية البروليتاريا:
"حين
تطبق نظرية الصراع الطبقي من قبل ماركس في قضية الدولة والثورة الاشتراكية،
فإنها تقود بالضرورة الى القول بالسلطة السياسية للبروليتاريا، القول
بدكتاتوريتها...إسقاط البرجوازية هو الخطوة العملية التي تجعل من البروليتاريا
طبقة حاكمة قادرة على هزيمة المقاومة الحتمية والضروس للبرجوازية وتؤدي بها لأن
تنظم كافة الجماهير الكادحة والمستغَلة من أجل النظام الاقتصادي الجديد" ويجد الانتهازيون والفوضويون كلاهما أن الثورة البروليتارية تتناقض مع إقامة الدولة الدكتاتورية. فبالنسبة لأحدهما كان يجب أن تكون الثورة البروليتارية المبشر بـ"الديمقراطية" وإنهاء كل شكل من أشكال الدكتاتورية، وبالنسبة للآخر كانت الثورة البروليتارية مرادفة لزوال الدولة. وعجز كل من هذين التيارين عن إدراك خصائص المراحل الثورية، المراحل الانتقالية، وخصائص الدولة في هذه المراحل. ويربط لينين بوضوح دولة المراحل الانتقالية الثورية مباشرة بالثورة نفسها، بالحدث الذي ينتزع "مؤقتاً" البشر من مكانتهم الاقتصادية التقليدية ومن علاقاتهم الروتينية ببعضهم البعض في الإنتاج الاجتماعي ويضعهم في مواجهة صريحة وعنيفة. في المراحل الثورية أما أن تكون الدولة وسيلة تقدم الثورة أو وسيلة توقفها. دكتاتورية البروليتاريا ضرورية ليس من جانب أن العلاقات الإنتاجية الجديدة قد ظهرت الى الوجود وهي بحاجة لبنية فوقية سياسية تتناسب وتتطابق معها ومن ثم دولة تتطابق وتتناسب معها، بل من جانب أن البرجوازية تقاوم حتى النفس الأخير. الدولة الآن مثل الحزب، مثل الجيش الثوري والمليشيا الجماهيرية وسيلة للتقدم في قضية النضال الثوري وتغيير توازن القوى السياسية. ولهذا ليس من المناسب استخدام خصائص الدولة "التقليدية" لتوصيف دولة المراحل الانتقالية. وهذا الحكم ينطبق على دولة الطبقات الثورية وأيضاً على الدول الرجعية البرجوازية. لقد كشفت الأقسام المختلفة من اليسار الإيراني، سواء طوال ثورة ١٩٧٩ وحتى اليوم أيضاً، عن عجزها في فهم هذه النقطة، في تحليل الدولة البرجوازية الحاكمة. فقد تصورت أن عليها، في اتخاذ موقف "ماركسي" مقابل الجمهورية الإسلامية، أن تحلل "الأسس الاقتصادية الخاصة" لها ورأينا كيف أن هذه "الماركسية" شبه الأكاديمية كانت تحدد في كل فترة معينة واحدة من الشرائح الاجتماعية من قبيل "البرجوازية التجارية"، "البرجوازية الصغيرة التقليدية"، و"بقايا الإقطاعية" وغيرها وإعطائها ثقلاً ومكانةً في فهم دولة الجمهورية الإسلامية. لقد دخلت دولة الجمهورية الإسلامية الميدان بمثابة دولة البرجوازية في "المرحلة الثورية"، أي دولة البرجوازية المنظمة بصورة ثورة مضادة، لحسم مصير الثورة وقد أغلق اليسار الإيراني عيونه عن هذا المحتوى البرجوازي المكشوف للدولة وراح يتعقب الشرائح والفئات "الثانوية" في المجتمع في تفسير الخصائص الطبقية والممارسة السياسية للدولة. نحن اعتبرنا هذه الدولة، وبسبب دورها الحيوي بالنسبة لكل البرجوازية في مرحلة ثورة ١٩٧٩، دولة البرجوازية والبرجوازية-الإمبريالية. ولم تعجب "يساريتنا" هذه اليسار الإيراني، ومع هذا وبعد بضعة سنوات من ذلك وحين اتسعت مديات القتل والقمع لدرجة بحيث صار الآخرون على استعداد اعتبار الجمهورية البرجوازية برجوازية، وجدوا مجدداً مأخذاً علينا وهو لماذا استنتجنا الطابع البرجوازية للجمهورية الإسلامية من "السياسة" فقط ولم نفضحها بوصفها التنظيم السياسي لـ"الرأسمال الاحتكاري"! وفي كلا الحالتين، يشكل التفسير "الاقتصادي" للدولة محور تفكير اليسار الإيراني. في حين تشكل الدولة في المراحل الثورية المنظم للثورة المضادة بيد البرجوازية وأداة حيوية بيد البروليتاريا لتنظيم الثورة والتقدم بها. وعلى "الاقتصاد" انتظار تقرير مصير الثورة. إن شخصاً مدركاً لـ"جوهر النظرية الماركسية حول الدولة"، عليه فهم العلاقة المباشرة للدولة بالصراع الطبقي الظاهر. والالتصاق بـ"الاقتصاد"، في هذه المراحل، يبعد الشخص بوضوح عن الماركسية والفهم الماركسي. إن نموذجاً آخر لهذا الفهم الميكانيكي والاقتصادي هو أسلوب تعامل منظمة (الوحدة الشيوعية) وموقفها من الدولة الديمقراطية الثورية (سواء في رؤيتنا أو في مواقف لينين في عام ١٩٠٥)، فهي تدعي بما أن "الدولة هي أداة بيد الطبقة السائدة اقتصادياً" على هذا الأساس فإن الدولة الديمقراطية الثورية هي مجرد يوتوبيا ذلك أن الاقتصاد مادام رأسمالياً، فإن هذه الدولة هي بالضرورة أداة بيد الطبقة "السائدة" اقتصادياً وإذا لم يكن الاقتصاد رأسمالياً، فإن هذا يستلزم الثورة الاشتراكية وتنتفي قضية الدولة الديمقراطية. ويهاجمون من هذا المنظار الثورة الديمقراطية والدولة الثورية ويفضلون البقاء في المعارضة مادام الاقتصاد رأسمالياً ويهاجمون لينين لأنه أبتدع فكرة الدكتاتورية الديمقراطية للعمال والفلاحين. دكتاتورية طبقتين غير ممكنة، ذلك أن "اقتصاد" طبقة واحدة على أية حال هو ما يحدد طابع الدولة! وهذا هو العجز عن فهم مفهوم الدولة في المراحل الثورية. على أية حال سأتناول هذه النقاط فيما بعد بدقة أكثر. وفي هذه المقدمة من الضروري التذكير بالموضوعات التالية: أولاً: المادية التاريخية لا تعني فقط معرفة تعدد أساليب الإنتاج، وقوانين عملها وتسلسلها التاريخي. بل إن جزءاً مهماً من المادية التاريخية، خصوصاً الجزء الذي يجد في العنصر الثوري طابعاً عملياً أكثر حسماً، هو تحليل المراحل الانتقالية الثورية الفاصلة بين أساليب الإنتاج هذه، أي كافة تلك المراحل الثورية التي تلازم هذه التحولات الجذرية. المراحل التي يظهر فيها البشر بقدرة أكبر في تقرير مصيرهم. هذا الجزء من المادية التاريخية، الذي اختص القسم الأساسي من كتابات ماركس وانجلز ولينين السياسية في تحليله، يختفي على الأغلب في فوضى التصنيفات التحريفية لـ"العلوم الاجتماعية". وتبتذل المادية التاريخية على يد هؤلاء الى سرد تاريخي ميتافيزيقي لتاريخ أساليب وأنماط الإنتاج. ثانياً: بقدر تعلق الأمر بقضية الدولة، فإن للمراحل الانتقالية الثورية أهمية حاسمة. وهنا تتحول الدولة مباشرة الى وسيلة لحفظ أو كسب السلطة السياسية، بوصفه هدفاً آنياً مباشراً. لتحليل الدولة في هذه المرحلة، ينبغي العودة لا الى ميدان الاقتصاد، بل الى ميدان صراع الثورة والثورة المضادة بالدرجة الأساس. وتجد الدولة فلسفة وجودها في هذا الميدان ويقيّم طابعها الطبقي بهذا المعيار. ثالثاً: لدولة المرحلة الانتقالية، وكذلك "الدولة الاعتيادية"، تعريف عام مشترك. الدولة قوة قمع خاصة للقمع الطبقي. الدولة "الاعتيادية"، أي الدولة في مجتمع في حالاته "الروتينية" وغير المتأزم، هي وسيلة الطبقة السائدة اقتصادياً وتتميز من هذه الناحية بجملة من الخصائص المحددة. أما الدولة في المرحلة الثورية فهي تجيب على قضية الثورة. حيث تشكل في يد البرجوازية أداة تنظيم القمع المضاد للثورة وتشكل في يد البروليتاريا والشرائح الثورية وسيلة تنظيم قوى القمع الثورية. وعلى أية حال تكتسب الدولة في هذه المرحلة خصائص جديدة وفي نفس الوقت تفقد جزءاً من ملامحها التقليدية والمألوفة، أي ممارساتها وأشكال وجودها في المراحل الروتينية غير المتأزمة. رابعاً: النظرية الماركسية حول الدولة، لا تأخذ بنظر الاعتبار فقط الظروف العادية والمألوفة، بل تقدم فهماً واضحاً عن الدولة في المراحل الانتقالية، الدولة في المراحل الثورية بالمعنى الواسع للكلمة. علاوة على ذلك، بإمكان النظرية الماركسية حول الدولة أيضاً تحليل عملية تحول الدولة الاعتيادية والمألوفة الى دولة مرحلة ثورية وبالعكس، وفهم خصائص هذه العملية. ويشكل هذه جانباً من جوانب النظرية الماركسية حول الدولة الذي ينبغي اكتشافه في الكتابات السياسية للقادة الماركسيين، أي الكتابات التي كتبت بالدرجة الأساس في قلب الظروف الثورية.
الدولة في المراحل الثورية المراحل الثورية بالمعنى الخاص للكلمة وقضية الدولة
١- مثلما أشرنا فإن الدولة البرجوازية الاعتيادية (في هذا البحث نتناول فقط المراحل الثورية في العالم الرأسمالي المعاصر) هي دولة تتخذ مظاهر وأشكال قوة فوق الطبقات وفوق المجتمع وتمثل المصالح العامة وتتحدث باسم المجتمع ككل. ومن المقرر أن تخدم التشريعات والقوانين في المجتمع البرجوازي هذه الغاية. فالتشريع والخضوع للقوانين، يبدو وكأنه يكمن في "الذات البشرية" وينبع من "أصول" مجردة فوق المصالح الفئوية والطبقية. وعلى أية حال فإن الدولة الاعتيادية، الدولة القانونية، هي دولة طبقية، ولكن يتم التستر على طابع الدولة هذا في الظروف الاعتيادية، وفي المراحل غير الثورية. إن الماركسيين فقط هم من يعرف في كل الأحوال ويكشف هذا الطابع للدول، ولكن بالنسبة لأبناء المجتمع فإنهم على ما يبدو يقبلون عموماً بالطابع فوق الطبقي للدولة في المراحل اللاثورية. و"الدولة السيئة" هي الدولة التي لا تخدم "شعبها". إذ أن لدى الشعب توقعات وانتظارات حقوقية واقتصادية وثقافية خاصة من "الدولة" والدولة التي تفشل في الاستجابة لتلك التوقعات والانتظارات، يبدو أنها دولة فاشلة في أنجاز مهامها ووظائفها كـ"دولة"، ولكن نفس مفهوم الدولة لن يكون تحت طائلة السؤال. فمن الواضح بالنسبة لنا، أنا وأنتم، أن دولة الشاه هي دولة طبقة معينة، حالها حال دول من قبيل أمريكا وبريطانيا والهند. ولكن بالنسبة للجماهير الغفيرة من سكان البلد، كان يتم الحكم على نفس دولة الشاه حتى قبل مجيء ثورة عام ١٩٧٨- ١٩٧٩ بمعيار انتظارات وتوقعات "شعب" من "دولة" محددة وليس بمعيار المصالح الطبقية المحددة. ولكن في المرحلة الثورية تتبدد هذه الأوهام بسرعة. وما يبدد هذه الأوهام على الصعيد الواسع النطاق هو الواقع والحقائق الموضوعية وليس الدعاية الشيوعية. فقد اتضح للجماهير الغفيرة من خريف عام ١٩٧٨ وحتى ثورة شباط ١٩٧٩الطابع الطبقي لدولة الملكية الشاهنشاهية. لهذا صار يشار للدولة حتى بين أكثر طبقات المجتمع تخلفاً بوصفها دولة "الإمبريالية الأمريكية" ودولة الطبقة "الرأسمالية". وكون الدولة قوة القمع الخاصة لدى الطبقات الحاكمة لا هو موضع شك ولا هو بحاجة للبرهان، بل تركز النقاش والحديث حول اسقاط "دولة الطبقات الحاكمة". وفي الواقع فإن الدولة نفسها من يزيح قانونيته جانباً في مواجه الثورة وتلجأ للإجراءات اللاقانونية والى جانب ذلك تُسقط بالضرورة تصورها عن نفسها بوصفها ظاهرة فوق الطبقات والمصالح المتناقضة والمتضادة داخل المجتمع. انعدام قيمة القانون في المرحلة الثورية، سواء قبل سقوط نظام الحكم الموجود أو بعد سقوطه، يشكل بحد ذاته شاخصاُ ودليلاً على افتضاح الجوهر الطبقي للدولة والمصالح الخاصة الكامنة وراء هذه القوة القمعية وتحولها الى قوة قمع خاصة تخص جزءاً معيناً من المجتمع. وفي المرحلة الثورية تضطر القوة القمعية للاعلان عن تحيزها الطبقي الخاص، وليس هناك أمام الطبقات الحاكمة من سبيل آخر غير هذا السبيل للقضاء على الثورة وتحطيمها. إن الدولة الناجمة عن الثورة (سواء كانت حقيقية أو لا) ومن أجل الحفاظ على بقائها مضطرة طوال المرحلة الثورية للجوء الى الأعمال اللاقانونية والحديث باسم أقسام وطبقات معينة في المجتمع (حتى لو كانت الأكثرية). وبالنسبة للدولة الجديدة تشكل الثورة مصدر السلطة وليس القانون. مثلما أن الأمربالنسبة للدولة القديمة أثناء هبة الجماهير يتمثل في أن الاستقرار هو مصدر ممارسة سلطتها وليس القانون. وفي الواقع فإن العبور من أسبقية الثورة الى سيادة القانون هو أحد شواخص ومظاهر الانتقال من "دولة المرحلة الثورية" الى "الدولة الاعتيادية". وبالتزامن مع انكشاف التحيز الطبقي الخاص للدولة وممارستها اللاقانونية، تفقد المؤسسات والعلاقات الروتينية و"القانونية" لممارسة السلطة الحكومية أهميتها لصالح المؤسسات والعلاقات اللاقانونية وغير المألوفة. وتنحط الدولة البرجوازية في المرحلة الثورية وتنحدر الى أصلها الأساسي أي الى "مجموعة من القوى المسلحة القمعية، والسجون والمحاكم". وتنهار جميع التزويقات ومظاهر التشذيب والزينة وتمنح الحكومة والبرلمان والهيئات القضائية وما الى ذلك مكانها للمقرات واللجان العسكرية وقوات الطوارئ التي تنفذ الوظائف الرئيسية للدولة البرجوازية بعيداً عن أي تزويق وإضافات. إذن هنا ما عادت المؤسسات "التقليدية" فعالة، لأن المجتمع ووفقاً للتعريف هو في حالة ثورة ضد تلك المؤسسات وفي حالة تمرد عليها وعدم خضوع لها. ومن الجانب الآخر فإن الدولة الناجمة عن الثورة (الدولة التي تشكلت على أية حال "باسم الثورة") مضطرة في بقائها ليس بالاستناد على المؤسسات والهيئات المبنية والموروثة من مرحلة اللا أزمة، بل على المواد والعناصرالتي تشكلت وتبلورت طوال عملية الثورة. عملية الإنبعاث أو إعادة بناء وإكمال المؤسسات الحكومية الاعتيادية هو بحد ذاته شاخص ومعيار من المعايير المهمة أيضاً في الانتقال من "دولة المرحلة الثورية" الى "الدولة الاعتيادية". كل هذا يعني أن كل من البرجوازية وكذلك الجماهير الثائرة في المرحلة الثورية تنظر الى الدولة لا بمثابة مؤسسة فوق المجتمع، بل بوصفها أداة في خدمة التفوق السياسي والعسكري في مرحلة معينة، أي كل ما يمكن أن يكون في الواقع "دولة المرحلة الثورية". وتتحول الدولة قبل كل شيء الى أحد أشكال تنظيم الممارسة السياسية المنظمة لطبقات محددة فيما يتم تهميش وظيفة "إدارة الأمور". وسنشير الى أهمية هذه النقطة في تحليل أسلوب تعامل لينين مع الدولة الثورية في عام ١٩٠٥ وعام ١٩١٧، الأمر الذي كان يثير استغراب ودهشة الإقتصاديين الأكاديميين، وكذلك في تحليل مكانة الجمهورية الثورية في برنامجنا. ٢- ولكن في مرحلة الثورة لا تشكل الدولة وسيلة تغيير المجتمع، أو وسيلة مقاومة تغيير المجتمع، بل أنها تكون نفسها موضوع التغيير في المجتمع. بعبارة أخرى ليست الدولة وسيلة الممارسة السياسية المنظمة لطبقات معينة، بل أنها نفسها ظاهرة تعتبر بشكل مباشر موضوعاً للممارسة السياسية. ففي إضراب لزيادة الأجور تظهر الدولة البرجوازية بدور القامع. انتصار ونجاح ذلك الإضراب، حتى لو كان بشكل قسري، سيكون بمعنى النجاح في زيادة الأجور. ولن تكون الدولة في الأساس موضع هجوم، ولن تكون هناك، بالضرورة، مطالبة بإجراء تغيير جدي في الدولة، في نسيج الدولة، وفي نهجها وأسلوبها وما الى ذلك. ولكن في ثورة ما، فإن الدولة القائمة هي نفسها ظاهرة عرضة للرفض وتتم المطالبة بنوع معين من دولة بديلة. إن قضية الثورة هي السلطة السياسية ولذلك فإن القسم الأعظم من مطالب الشرائح الثورية يرتبط مباشرة بالتغيير في شكل وممارسة وعمل الدولة نفسها. وموضوع أية دولة بأية تركيبة وأية سمات يجب أن تسود هو أحد مطالب وأهداف الثورة. هذا الحقيقة تضيف عاملاً في تحليل الدولة البرجوازية يحوز على أهمية أقل في مرحلة الممارسة "الاعتيادية" للمجتمع، وهذا العامل هو أن الإصلاح في عمل الدول البرجوازية طوال مرحلة الثورة، هو حصيلة وثمرة ضغط الثورة وردود أفعال البرجوازية تجاه الأوضاع الثورية. وهذا هو تراجع سياسي من قبل البرجوازية للتخفيف من حدة الثورة نفسها. وعليه فإن "الإصلاحات" في أشكال الحكم البرجوازي في المرحلة الثورية تختلف اختلافاً اساسياً عن الإصلاحات في المراحل غير المتأزمة والاعتيادية. في المراحل غير المتأزمة لا تتناقض الإصلاحات السياسية في المجتمع البرجوازي بالضرورة مع حاجات تراكم الرأسمال، بل في الكثير من الأحيان تصبح شرطاً لازماً لتوسيع عملية التراكم تلك. فالإصلاحات السياسية، وعلى الرغم من أن طبقات المجتمع المحرومة تشكل القوة المحرِّكة لها، إلا أنها في أغلب الأحيان تتطابق وتنسجم مع الحاجات الاقتصادية والاجتماعية الجديدة للبرجواية. ولكن في المراحل الثورية، فإن الإصلاحات السياسية هي دليل على تراجع الدولة البرجوازية، وهي بالضد من رغبة وميل البرجوازية وبالضد من الحاجات الموضوعية الاقتصادية والاجتماعية الاعتيادية للرأسمال. ثمة اختلاف كبير بين نمو البرلمانية، اتساع مديات نشاط الاتحادات العمالية، تنامي حق التصويت والحريات البرجوازية-الديمقرطية التي أصبحت فعلية طوال عملية تاريخية طويلة نسبياً في أوروبا (والآن هي بصدد الزوال والانقضاض عليها وسلبها)، وبين "الأجواء السياسية المفتوحة" التي ترضى بها، على مضض، الدول البرجوازية المستبدة في البلدان الخاضعة في أوضاع الأزمة الثورية. فبالنسبة للثانية لا يجب البحث في "الاقتصاد" أو في متطلبات عملية التراكم، وفي المنافسة بين مختلف أجنحة البرجوازية ومصالحها المختلفة، لتعقب أسس تطابقها مع الحاجات الاقتصادية لهذا أو ذاك القسم من البرجوازية. هنا، أي في المراحل الثورية، تتراجع البرجوازية مؤقتا مقابل المطالب الثورية بخصوص الدولة وبقصد كبح وامتصاص أمواج الثورة. هذا هو ما تفرضه الثورة على البرجوازية وليس إصلاح الدولة البرجوازية وفقاً للمستلزمات الجديدة للبنية التحتية الاقتصادية والطبقية للمجتمع البرجوازي. وإذا دخل الليبراليون، الاصلاحيون، والبرلمانيون وغيرهم الميدان وتحولوا الى ممثلين لحكومة الرأسمال نتيجة لهذه التراجعات فإن هذا لا يعني تفوق أشكال الحكم الليبرالي-البرلماني في النظام الاجتماعي البرجوازي ورغبة البرجوازية بأشكال الحكم هذه "بحد ذاتها"، بل يعني تراجع البرجوازية الى مكانة غير مرغوبة بالنسبة لها هي الليبرالية والبرلمانية. عمر هذه الإصلاحات تابع لضغط الثورة وليس لضغط المصالح الاقتصادية لشريحة خاصة من شرائح البرجوازية أو مستلزمات المرحلة الجديدة من تكامل ونمو المجتمع البرجوازي. ولكن النتيجة الأهم يمكن استنتاجها من هذه النقطة فيما يتعلق بنفس الدولة الثورية. لقد قلنا أن الثورة نفسها تتضمن المطالبة بنوع خاص من الدولة. ولكن من الخطأ التصور أن حصيلة انتصار أية ثورة ستؤدي مباشرة الى قيام هذا النوع الخاص من الدولة. إذ أن المطالب الثورية فيما يتعلق بالدولة، تتصور منهاجاً خاصاً متعارفاً عليه من الحكم: نوع محدد من الديمقراطية، نوع محدد من سلسلة المراتب والتسلسل الهرمي للسلطة، نوع محدد من تدخل الأفراد في عملية القرار السياسي والاقتصادي، نوع محدد من القانون، والحقوق والوظائف الفردية والجماعية. ولكن الدولة الثورية، في المرحلة الثورية، هي وسيلة تحقيق هذه الدولة المُطالَب بها وليست تلك الدولة نفسها. ولا يمكن للدولة الثورية في المرحلة الثورية أن تكون، على الفور، مثل تلك الدولة مباشرة، إلا في ظل ظروف استثنائية. فحصيلة كل ثورة منتصرة دولة ثورية مؤقتة تعمل بمثابة وسيلة في قمع مقاومة الثورة المضادة. هذه الدولة هي علامة تكامل الفعل الثوري "من الأسفل" وتطوره الى مجموعة الإرادات الفاعلة الموحدة "من الأعلى والأسفل" على حد سواء. وهذه المرحلة الجديدة من الثورة هي مطلوبة من أجل أقامة النظام السياسي وليس النظام السياسي نفسه. بعبارة أخرى فإن الدولة الثورية في مرحلة الثورة، أي الدولة التي هي حصيلة الانتفاضة والمشرفة على مرحلة الظفر السياسي والعسكري الحاسم للثورة، تختلف عن "الدولة الاعتيادية" الناجمة عن الثورة، أي النظام السياسي المنشود. هذه الاختلاف ليس فقط في النهج والأولويات، بل وكذلك في تركيبة الدولة، هيئاتها، القوى المكوِّنة لها وعلاقتها الفعلية بالطبقات التي تمثلها. وليس من الصعب فهم أسباب هذا الاختلاف. فإقامة النظام السياسي الجديد يتطلب ويستلزم قمع وإزالة مخاطر إعادة النظام القديم. ولكن هذا القمع يجب أن يتبلور بالاستناد على القوى والطاقات النضالية الموجودة أصلاً في متناول اليد الآن. إن هيئات الثورة، من الأعلى الى الأسفل، ليست بالضرورة نفس هيئات إدارة المجتمع في "النظام السياسي المنشود". إذ من المحتمل أن لا تكون هيئات "النظام السياسي المنشود" قد تبلورت بشكل كامل أو ربما تكون في مراحلها الأولية. والترتيبات التنظيمية التي اتخذتها الطبقة الثورية من أجل اسقط النظام، ليست بالضرورة وليس محتملاً على الأغلب أن تكون نفس الترتيبات التي تتخذها هذه الطبقة في النظام السياسي المنشود. والقوى التي تمتلكها الطبقة الثائرة بشكل فعلي عشية إسقاط النظام، هي ليست نفس القوى التي تنشط وتدخل الى الميدان في خضم عملية قمع الثورة المضادة وتأكيد النصر السياسي والعسكري المحقق للثورة. وبكلمة واحدة، الدولة الثورية المؤقتة، هي الثمرة الحتمية لعملية الثورة، وتتخذ طابع المسار السابق للنضال الثوري وقواه وتقاليده ومستلزماته. في حين أن النظام السياسي الذي تنشده الثورة، والذي بوسعه فقط أن يكون بشكل كامل حصيلة طي مرحلة الثورة بنجاح وظفر، يتخذ أشكاله وعلاقاته ليس فقط من عملية الثورة، بل وذلك من أهداف وأفكار وبرنامج الطبقة الثورية وحياتها الاجتماعية. إما الى أي حد تستطيع الدولة الثورية المؤقتة أن تشبه على الفور النظام السياسي المنشود، فإن هذا يتبع لعوامل كثيرة. ولكن ليس هناك من شك أن عدم التشابه الكامل ووجود اختلافات جدية بين الدولة الثورية في المرحلة الثورية، وبين "النظام الاعتيادي" الذي تتطلع إليه الثورة، هو القاعدة وليس الاستثناء. ومن البديهي أيضاً أن الظفر والانتصار النهائي للثورة من الناحية السياسية لا يقتصر فقط على الإطاحة بالدولة البرجوازية وإقامة الدولة الثورية المؤقتة، بل يعني تنظيم وبلورة النظام السياسي الذي تهدف إليه الثورة ويتضمن التحرر والخلاص السياسي. وبهذا الشكل فإن إحدى الخطوات الثورية الأساسية للدولة الثورية المؤقتة هي المساعدة في تبلور تلك العلاقات والمؤسسات التي يجب أن يقوم عليها النظام السياسي المنشود في أقل مدة زمنية ممكنة. وبهذا المعنى فإن الثورة وحتى بعد الإطاحة بالدولة القديمة وإقامة الدولة الثورية المؤقتة، ستظل تنشد وتتطلع لإقامة نوع معين من الدولة. فالدولة الثورية في المرحلة الثورية، هي وسيلة تحقيق هذا الهدف السياسي الأساسي وهي في نفس الوقت ستتبع بوصفها دولة أيضاً حركة تقدم الثورة وستتغير جذريا نتيجة هذه الحركة. وسنتناول فيما بعد، من ضمن الإشارة الى تجربة ثورة أكتوبر والانتقادات "الديمقراطية" الموجهة تحت ستار اليسار الى الثورة البلشفية، أهمية هذا التمييز بين هذين النوعين من الدولة الناجمة عن الثورة. ٣- في المراحل الثورية يتبلور استقطاب الطبقات الاجتماعية والمواجهة الفعلية بين الطبقات على أساس مسائل إما أن تكون هامشية أو لم تطرح بعد بشكل جدي في المراحل الواضحة وغير الثورية من حياة المجتمع. حيث تصطف الطبقات الاجتماعية وتستقطب حول مسائل تنبع من مسار ومستلزمات حركة الثورة. نفس العوامل والشواخص التي تشكل معايير تحديد الهوية والانتماءات الطبقية للدول، الأحزاب، والشخصيات السياسية للطبقات المختلفة في الظروف الاعتيادية غير المتأزمة، ليست بالضرورة شواخص ومحددات ومعايير مناسبة وجيدة في المراحل الثورية. بل ثمة شواخص ومحددات أخرى تكتسب أهميتها على مستويات أكثر تحديداً وواقعية. فقد شهدنا جميعاً في إيران كيف أن المطالب "الصنفية" تخلت، مع نمو الثورة، عن مكانها للمطالب "السياسية"، وكيف تحولت قضايا معينة من قبيل "الملَكَيّة، نعم أو لا"، "إطلاق سراح السجناء السياسيين"، "السيطرة العمالية" وما شابهها الى مركز اهتمام الجماهير وتحولت، وفقاً لذلك، الى مركز التقاء وتضاد مصالح الطبقات المتصارعة في المجتمع. من الضروري ربط تحليل الطابع الطبقي للدولة في المراحل الثورية بالمسائل الملحة للصراع الطبقي، أي المسائل التي تشكل بموضوعية معضلات نمو أو نكوص الثورة. وليس بكاف إيجاد الصلة بين الدولة والأحزاب السياسية من جهة و"الملكية الخاصة" و"الحفاظ على العلاقات الانتاجية القائمة" من الجهة الثانية. فمن أجل تشخيص الطابع الطبقي للأحزاب والدول في المراحل الثورية، يجب قبل كل شي التركيز على القضايا الطبقية في الثورة وممارسات الدولة والأحزاب السياسية تجاه تلك القضايا. في ثورة ١٩١٧ في روسيا، لم يكن الاشتراكيون الثوريون والمناشفة هم نفس الاشتراكيين الثوريين ومناشفة سنوات ما قبل الثورة، حتى لو كانوا كذلك من ناحية البرنامج وكانوا في شعاراتهم ومطالبهم يدافعون عن نفس علاقات الملكية والعلاقات الاقتصادية التي كانوا يدافعون عنها قبل الثورة. فقد اعتبر لينين الحكومة المؤقتة، أي الحكومة التي تشكلت بمشاركة الاشتراكيين الثوريين والمناشفة، حكومة برجوازية وإمبريالية، ليس بسبب أن تلك الحكومة المؤقتة مكونة تماماً من القوى الحزبية والسياسيين البرجوازيين الكبار وملاك الأرض الكبار الروس والمدافعين بحماس عن برنامجهم الاقتصادي، بل بسبب أن تلك الحكومة رفعت قامتها مقابل السلام، مقابل شعار سلطة المجالس (السوفيتات)، مقابل مطلب ٨ ساعات عمل، ومقابل مطلب توزيع الأراضي وعموماً ضد أهداف وشعارات الثورة الراهنة ولذلك مارست دورها، في واقع الأمر، كدولة البرجوازية ومالكي الأرض الروس في المرحلة الثورية. وقد كانت هذه الشعارات، وهذه القضايا والمعضلات، موضع التقاء الثورة والثورة المضادة في روسيا عام ١٩١٧ وبالتالي فإن نفس هذه العوامل تمثل، قبل أية ملاحظة أكثر عمومية بخصوص علاقة أي تيار بالعلاقات الانتاجية، العامل المشخِّص للانتماء الطبقي للأحزاب غير البروليتارية والحكومات الائتلافية. وحين تستقطب الطبقات مقابل الثورة، فإن المسائل التي تميزها عن بعضها البعض ستكون أيضاً نفس المسائل التي يعتمد عليها نمو أو توقف الثورة. على الدولة البرجوازية في المرحلة الثورية أن تجيب على حاجات الطبقة البرجوازية في نفس المرحلة وليس بالضرورة على حاجات وركائز وأسس عموم المجتمع البرجوازي في ميدان الإنتاج وإعادة الإنتاج ونظام الإنتاج. في التحليل النهائي فإن هذا هو أيضاً دفاع عن الوجود الاقتصادي والملكية الخاصة البرجوازية لأن السبيل العملي الوحيد للدفاع عن الملكية الخاصة والسيطرة الاقتصادية والاجتماعية للبرجوازية في المرحلة الثورية، هو مواجهة الثورة. إن القوة القادرة على تنظيم وقيادة هذه المعاداة للثورة وهذه المقاومة الطبقية البرجوازية بأكثر الأشكال نشاطاً وتأثيراً، ستكون هي القوة المكوِّنة للحكومة البرجوازية، بغض النظر عن مسألة أن كان ذلك التيار هو بحد ذاته أنشط المدافعين والمبررين للعلاقات الاقتصادية والملكية الخاصة البرجوازية وأكثرها وضوحاً وصراحة والأقدر على إدارة المجتمع البرجوازي الاعتيادي أو لا. فالدولة البرجوازية تمارس دورها في المرحلة الثورية بوصفها دولة الثورة البرجوازية المضادة، ولذلك تلجأ مؤقتاً، من أجل قمع أو كبح جماح الثورة، الى مجموعة من الخطوات التي هي ضد المصالح الفورية الاقتصادية أو المصالح الأساسية للملكية الخاصة البرجوازية. وقد أدى ضعف اليسار الإيراني في تشخيص هذه النقطة في الموقف من نظام الجمهورية الإسلامية الى التباسات وبلبلة فكرية ومواقف انتهازية مؤسفة. وسأتناول هذه النقطة لاحقاً. ٤- للمرحلة الثورية، على أية حال، بداية ونهاية وفي خاتمة المطاف ستترك مكانها لنظام سياسي مستقر و"مألوف". وسواء انتصرت الثورة نهائياً على البرجوازية أو انهزمت الثورة على يد البرجوازية فإن المجتمع سيدخل مرحلة من الحياة الروتينية والعادية المألوفة. وعلى الدولة بمثابة جزء من المجتمع أن تمر أيضاً بهذا التحول. فيما ستترك العلاقات والمؤسسات والقوى التي كانت سائدة في المرحلة الثورية، مكانها للعلاقات والمؤسسات المنسجمة مع إنتاج وإعادة إنتاج الحياة الاجتماعية في ظل علاقات إنتاجية معينة، ويتم ذلك إما بالتطور أو بالتلاشي والاضمحلال. ولكن تحول الدولة من دولة المرحلة الثورية الى دولة اعتيادية مألوفة لا يتم بشكل مرتجل وفوراً. بل ينبغي أن تتم هذه العملية في العالم المادي وبتوفر أسسها الموضوعية والمادية العملية. وعلى الماركسيين الاهتمام بأشكال تحول الدولة من المرحلة الثورية الى مرحلة الحياة الاعتيادية للمجتمع. إن تبلور المؤسسات والهياكل السياسية والإدارية الدائمة للحفاظ على السلطة السياسية من قبل طبقة معينة وكسب وتثبيت الأشكال الحقوقية، القانونية، الثقافية، والأيديولوجية بحيث تكون قادرة على الحفاظ على ميزان القوى السياسية بشكل روتيني لصالح الطبقة الحاكمة (أو التي وصلت الى الحكم)، هي عملية تبدأ في نفس المرحلة الثورية. لا البرجوازية قادرة على الاستمرار ببناء سلطتها الطويلة الأمد على دولة تبلورت في معاداة الثورة، ولا البروليتاريا، في حالة كسبها للسلطة السياسية، قادرة على الحفاظ على تفوقها وغلبتها وانتصارها السياسي في المجتمع بنفس الطريقة وبالاعتماد على نفس القوى والهيئات التي هيأت لسقوط البرجوازية وكسرت شوكة مقاومتها. وعليه ينبغي في تحليل دور وعمل الدولة في المرحلة الثورية أن يهتم جانب مصيري من تحليلنا بتلك المسارات التي تعمل فيها الدولة المؤقتة القائمة على بلورة أسس وركائز سلطة وحكم طبقتها الطويل الأمد. فأحد الشواخص المهمة والعلامات الفارقة في تحليل الطابع والانتماء الطبقي لدولة معينة في المرحلة الثورية، هو الخطوات والسياسات التي تلجأ إليها الدولة بوصفها الممهد لنظام قادم أكثر استقراراً. وسنعود الى هذه النقطة بشكل أكثر تحديداً في تحليل الجمهورية الإسلامية بوصفها دولة برجوازية والدولة البلشفية بوصفها دولة بروليتارية. ولنلخص هذا القسم: يجب تناول الدولة في المراحل الثورية بشكل حي وبعيداً عن التعريف والاستنتاجات الكليشية. وفي الواقع فإن الدولة في مثل هكذا ظروف وأوضاع هي ظاهرة حية ومتغيرة تكتسب فلسفة وجودها وطابعها من معضلات وقوانين حركة المجتمع في مرحلة تاريخية خاصة. هذا هو الطابع الأساسي للمراحل الثورية التي يتحول فيها الوضوح السياسي-الثوري للمجتمع الى رافعة الحركة والتطور الاقتصادي-الإنتاجي. وتقبل الدولة أيضاً بتأثيرات هذا الطابع الأساسي لتلك المرحلة التاريخية. محور فهم الدولة وعملها في تلك المراحل وعلاقتها الخاصة بطبقتها، هو نفسه فهم الخصائص الخاصة بالمرحلة الثورية. الثورة هي عامل حاسم في مسار حركة المجتمع في تلك المراحل ولذلك يجب تحليل الدولة في المرحلة الثورية في تمايزها واختلافها عن الدولة في المراحل غير المتأزمة من عمل المجتمع بتمحورها أساساً حول الثورة. ولبلورة فهم صحيح لعلاقة البنية التحتية الاقتصادية بالدولة في هذه المرحلة يجب أولاً تحليل علاقة تلك البنية التحتية بالثورة وكذلك الوصول الى مقولة الدولة من خلال الثورة. فالدولة البرجوازية في المرحلة الثورية تنفصل ظاهرياً عن الحاجات الاقتصادية لتلك الطبقة كي تلعب دورها في مستوى أدنى وأكثر أساسية في الحفاظ على تلك البنية التحتية من خلال محاولة قمع الثورة. ومن جانب آخر تكون الدولة الثورية البروليتارية في هذه المراحل وسيلة سياسية لاستمرار النضال الثوري. هذه الدولة هي في تناقض وتضاد مع العلاقات الاقتصادية القائمة، دون أن تكون هي بذاتها ذلك النظام السياسي والدولة المناسبة لـ والمتطابقة مع الحاجات الاقتصادية الجديدة. الدولة البروليتارية في المرحلة الثورية هي أيضاً دول مؤقتة ثورية وتختلف كثيراً من جوانب عديدة عن "الدولة المألوفة" الناجمة عن الثورة (لو صح إطلاق مثل هذه العبارة على دكتاتورية البروليتاريا الثابتة).
الدولة في المراحل الثورية
الفهم اللينيني للدولة في مسار الثورة من أجل الديمقراطية ما قلناه هو في الواقع ليس أكثر من استنتاجات عامة من الكتابات السياسية لقادة الماركسية وخصوصاً لينين. ورأينا في الجزء السابق كيف أن كتاب "الدولة والثورة" هو محاولة لوصف الخصائص والطابع المختلف للدولة في المرحلة الانتقالية بين الرأسمالية والشيوعية على أساس التعاليم الأساسية للماركسية. وبعبارة أخرى، فإن أسلوب التعامل مع ظاهرة الدولة في مراحل التحول الثوري للمجتمع بالمعنى الشامل للكلمة، تم التنظير له في الماركسية. وفيما يتعلق بالمراحل الثورية بالمعنى المحدود للكلمة تم الحديث بالشكل الكافي في الأدبيات الماركسية وخصوصاً في مناظرات لينين ضد المناشفة من أجل الخروج برؤية منسجمة ومنتظمة عن الدولة في هذه المراحل. حيث تشكل نقاشات لينين عام ١٩٠٥، خصوصاً في كتاب "خطتا الاشتراكية الديمقراطية ..." وكذلك العديد من مقالات لينين طوال ثورة ١٩١٧ المتعلقة بمصير السلطة السياسة ووظائف الدولة البروليتارية، مصدراً ثراً لفهم الدولة في المراحل الثورية وأسلوب التعامل الصحيح والماركسي معها. في عام ١٩٠٥ كانت الأحكام القائلة أن "الدولة هي وسيلة السيطرة السياسية للطبقة السائدة إقتصادياً" و "الدولة تابعة للعلاقات الاقتصادية القائمة في المجتمع والحامية لها"، تشكل مركز الثقل النظري لإصلاحية وليبرالية المناشفة في الموقف من مسالة السلطة السياسية. لقد كان المناشفة، وهذا ما هي عليه منظمة الوحدة الشيوعية في إيران اليوم، يعتقدون أن الطبقة العاملة وحزب العمال الاشتراكي الديمقراطي بوصفه الممثل السياسي لهذه الطبقة لا ينبغي لهما أن يشتركا في الدولة الديمقراطية التي من المتحمل أن تنجم عن الثورة. وكان السبب، مثلما قلنا سابقاً، هو: أن على الدولة الديمقراطية أن تنجز وتحقق مهام الثورة الديمقراطية. وهذه المهام هي مهام البرجوازية (لا تخرج عن نطاق أسس العلاقات البرجوازية) ولذلك ستكون الدولة بالضرورة تابعة للاقتصاد والعلاقات الاجتماعية البرجوازية وستتحول الى وسيلة في خدمة البرجوازية. وليس على الشيوعيين أن يلوثوا أيديهم بالمشاركة في هذه الدولة. غير أن لينين وفي معرض رده على هذا التشويه للمادية التاريخية وهذه الأكاديمية العمياء وغير المنحازة أجاب بفهم واضح لمقولة الدولة في المراحل الثورية:
"هنا
تتضح فوراً ما هي نتيجة غفلة دعاة الكونفرانس عن مسألة محددة تواجه قادة
البروليتاريا السياسيين. المسألة الملموسة هي غياب الحكومة الثورية المؤقتة عن
أفق ورؤية دعاة الكونفرانس في موضوع سلسلة الحكومات القادمة التي ستحقق كلياً
أهداف الثورة البرجوازية. وإذا أردتم النظر الى المسألة من جانب "تاريخي"، فإن
نموذج كل بلد أوروبي يبين لكم أن الأهداف التاريخية للثورة البرجوازية تحققت
بواسطة سلسلة من الحكومات التي لم تكن قطعاً حكومات "مؤقتة"، وحتى الحكومات
التي هزمت الثورة لم تتنصل، على أية حال، عن تحقيق المهام التاريخية للثورة
المهزومة. ولكن "الحكومة الثورية المؤقتة" ليست أبداً الحكومة التي تتحدثون
أنتم عنها: هذا هو اسم حكومة مرحلة ثورية، حكومة تحل مباشرة محل الحكومة
المنهارة وتستند على ثورة الجماهير وليس ذلك النوع من الهيئات المنتخبة
المنبثقة من الجماهير. إن حكومة ثورية مؤقتة هي هيئة النضال في مسار الظفر
السريع للثورة والتخلص السريع من مساعي الثورة المضادة، وليست هيئة تحقيق
الأهداف التاريخية للثورة البرجوازية بشكل تام. هلموا لنترك الموضوع لمؤرخي
المستقبل وليحكموا في
"Ruskaya Starina"
على ما هي وظائف الثورة البرجوازية التي أنجزنها نحن وأنتم وفلان من الناس بنفس
هذه الحكومة. هذا العمل يمكن القيام به بعد ٣٠ سنة أخرى أيضاً. ولكننا الآن
علينا أن نطرح الشعارات والتوصيات والتوجيهات العملية من أجل النضال في سبيل
الجمهورية ومن أجل أفضل مشاركة للبروليتاريا في هذا النضال. هنا يؤكد لينين بصراحة على التمييز بين الدولة من الناحية "التاريخية" والدولة في المراحل الثورية. فالدولة الثورية هي وسيلة استمرار النضال الثوري من الأعلى (بالإضافة الى الأسفل). هذه الدولة تستند على الثورة والقوة الثائرة وليس على هذه الهيئة المنتخبة أو تلك. وظيفة هذه الدولة قمع معسكر الثورة المضادة والترسيخ التام لسلطة الثورة. نفس المرحلة الثورية هي ما يحول قضية "انتصار الثورة" الى قضية محورية بالنسبة للطبقة العاملة. "غد الثورة" بالنسبة للينين لا هو معضلة نظرية، ولا هو موضوع من مواضيع علم الاجتماع، بل هو أوضاع عملية تتسم بخصائص مميزة خاصة. وليس لدى المناشفة رؤية ملموسة عن مستلزمات وسمات المراحل الثورية بل كانوا ينظرون الى الدولة من خلال جملة من الأحكام الجامدة والنمطية و"التاريخية" في سعيهم لتعقب أوضاع موضوعية تاريخية والتي تمتلك سمات وقوانين خاصة بها للحركة. الرؤية الأكاديمية والتفكير النمطي للمناشفة بخصوص الدولة، هو في الممارسة العملية تبرير للتهرب من النضال الثوري حتى النهاية:
"قرار
المناشفة وبدلاً من يوضح مسألة كيف ينبغي على البروليتاريا الآن "دفع المسار
الثوري الى الأمام"، وبدلاً من التوصية بخطوة عاجلة محددة من أجل النضال ضد
البرجوازية في خطوها نحو الوقوف ضد مكاسب الثورة، يقدم مجرد وصف عامل عن عملية
ما.، وصف لا يقول شيئاً عما يتعلق بالأهداف المحددة لنشاطنا. نهج ايسكرا
الجديدة في عرض وجهات نظرها يُذكِّر برؤية ماركس (في موضوعات فيورباخ) حول
المادية القديمة التي كانت غريبة عن أفكار الديالكتيك. لقد كان ماركس يقول أن
الفلاسفة لم يفعلوا غير أن فسروا العالم بطرق مختلفة، ولكن المسألة تتقوَّم في
تغييره. جماعة إيسكرا الجديدة قادرة، بنفس الشكل، على الوصف والتفسير المقبول
لعملية النضال الجارية أمام أنظارها، ولكنها عاجزة كلياً عن طرح شعار صحيح من
أجل هذا النضال. يجيدون المسير، ولكنهم يقودون بشكل سيء. إنهم يبتذلون الفهم
المادي للتاريخ بتناسيهم للقيادة النشطة والدور المرشد الذي يمكن ويجب تاريخياً
أن تلعبه الأحزاب التي امتلكت الشروط الأولية المادية للثورة وتقف في طليعة
الطبقات. والواقع هو أن هؤلاء "المفسرين" ليسوا بمدافعين عن "نظرية ماركس" مقابل "براغماتية" الثوريين، بل إنهم المشوهون لنظرية ماركس. وجدال لينين مع المناشفة حول قضية الدولة والسلطة السياسية في ثورة ١٩٠٥، ليس جدالاً بين "الواقع الأخضر" و"النظرية الرمادية"، لأن النظرية الماركسية هي من يعرف ديناميكية تحول المجتمع الحية والدولة في المرحلة الثورية ولذلك هي حية وغضة و"خضراء" بنفس الدرجة التي يكون عليها الواقع. دفاع لينين عن الحكومة المؤقتة في عام ١٩٠٥هو، في الواقع، دفاع نظري عن التحليل الماركسي للدولة. والنقطة الأساسية في ذلك الدفاع هي معرفة سمات وخصائص المراحل الثورية:
"على
المرء أن يمتلك تصور تلميذ مدرسة في رؤيته للتاريخ كي يرى القضية بشكل ملموس
دون "فقزات" وبصورة خط مباشر يتحرك بشكل بطيء ومرتبط بما سبقه، وبهذا الشكل
سيكون الدور الأول دور البرجوازية الليبرالية الكبيرة: تحقيق امتيازات جزئية من
الاستبداد، ثم يكون دور البرجوازية الصغيرة الثورية: الجمهورية الديمقراطية،
وفي خاتمة المطاف سيكون دور البرليتاريا: الثورة الأشتراكية. وهذا التصور هو
تصور صحيح بدرجة كبيرة، صحيح، على حد قول الفرنسيين، وتتحق تلك الأمور في فترة
طويلة من الزمن أي طوال قرن أو شيء من هذا القبيل...ولكن على الإنسان أن يتمتع
بسذاجة كبيرة كي يمارس هذا السذاجة في مرحلة ثورية. ذلك أن أجهزة الاستبداد
الروسية حتى لو عجزت عن إنقاذ نفسها عن طريق دستورية شكلية، وحتى لو لم تتداعى
فقط بل سقطت، من الواضح أن دور قوة ثورية عظيمة للدفاع عن هذه المكتسبات سيكون
أمراً ضرورياً. ولكن هذا "الدفاع" ليس سوى الدكتاتورية الثورية للبروليتاريا
والفلاحين. كلما كانت مكتسباتنا أكبر وكلما كان دفاعنا عن تلك المكتسبات أقوى
وأشد، كان قدرة الرجعية على سلب تلك المكتسبات فيما بعد أقل وأضأل، وسيكون دور
الرجعية اقصر عمراً فيما سيصبح دور المناضلين البروليتاريين بعدنا أسهل وأكثر
يسراً". ومقابل فهم "تلميذ المدرسة" هذا للمادية التاريخية والدولة، يجب التأكيد على البديهيات السياسية فيما يتعلق بالمراحل الثورية:
"أ
ليس من الواضح أن بدون الدكتاتورية الثورية الديمقراطية ليس هناك أقل أمل في
نجاح هذا النضال [من
أجل الجمهورية]؟
أحد العيوب الأساسية في الاستنتاجات المشار إليها [استنتاجات
المناشفة] جمودها
وموتها، طابعها الشكلي وعجزها عن الأخذ بنظر الاعتبار المكانة الثورية. النضال
من أجل الجمهورية وفي نفس الوقت التخلي عن الديكتاتورية-الثورية شبيه بما قام
به أوياما [مارشال
ياباني] حين
قرر الحرب مع كروباتكين [جنرال
روسي]في
مدينة موكدين ولكنه منذ البداية تخلى عن فكرة احتلال المدينة. لو كنا، نحن
الجماهير الثورية، أي العمال والفلاحين، نريد "النضال الى جانب بعضنا البعض
الاخر" ضد الاستبداد علينا أن نناضل الى جانب بعضنا البعض حتى النهاية، ونقضي
عليها الى جانب بعضنا البعض أيضاً ونكون الى جانب بعضنا البعض في القضاء على
المحاولات الحتمية الرامية لإعادته من جديد". هذا هو أسلوب لينين في النظر الى المرحلة الثورية ومسألة الدولة. الدولة الثورية هي استمرار للثورة، وتصاعد الثورة بالنضال "من فوق" من أجل إحباط مقاومة الثورة المضادة الحتمية. ومسألة ما يجلبه مسار تطور اقتصاد المجتمع في التحليل الأخير وفي مرحلة طويلة على الدولة الثورية، لا يوضح أي شيء عن ضرورة وحدود عمل هذه الدولة. نفي الدولة الثورية، بذريعة الصيغة القائلة أن "الدولة مدافع عن مصالح الطبقة السائدة اقتصادياً"، هو في الواقع هو لائحة اتهام "نظري" ضد الانتفاضة والثورة نفسها. إذا كان واجباً القيام بالثورة، حينها من الواجب أيضاً معرفة المعنى السياسي لانتصار الثورة وطبيعة السلطة السياسية في المرحلة الثورية. الدعاية للثورة من دون فهم ضرورة إقامة دولة ثورية، بالتحجج بالصيغ والعبارات النمطية بخصوص علاقة الدولة والبنية التحتية الاقتصادية، هو خداع ليبرالي وانهزامية مثقفين. وفي عام ١٩١٧ كان لينين يتبع نفس النهج في مقاربة الدولة أيضاً. وكان الكثير من الأشخاص يعتبرون موقف لينين حول طابع ثورة ١٩١٧ وضرورة تشكيل حكومة بروليتارية أعادة نظر في صيغة الدكتاتورية الديمقراطية الثورية للعمال والفلاحين (١٩٠٥). كانوا التروتسكيون يعتقدون أن لينين في عام ١٩١٧ يميل الى صيغة تروتسكي في عام ١٩٠٥. في حين يعتقد آخرون أن لينين في عام ١٩٠٥ يتبع نفس التفكير المنشفي حول الثورة المرحلية ولكنه تخلى عنه في عام ١٩١٧ في (موضوعات نيسان). وما يغضون النظر عنه هو فهم لينين الواضح لطبيعة الدولة في المراحل الثورية. وهذا هو نفسه الجانب من النظرية الماركسية الغائب عن تفكير المحللين والنقاد النمطيين للينين. فكرة دكتاتورية "طبقتين" اُنتقِدَت ومازالت تُنتقَد في عصرها وألان أيضاً (من قبل التروتسكيين ومن ضمنهم منظمة الوحدة الشيوعية في اليسار الإيراني) وبالطبع على أساس نفس الصيغة العسيرة الهضم الخاصة بعلاقة "الدولة والاقتصاد". غير أن لينين لم يستنتج هذه الفكرة (كي يغير موقفه فيما بعد) من التفسير المرحلي لتاريخ تطور العلاقات الإنتاجية في روسيا. وكما جرت الإشارة إليه سابقاً، كان يجب على الدولة الثورية في عام ١٩٠٥ أن تكون ائتلافاً حكومياً من طبقات وشرائح المجتمع الديمقراطية وأن تعبر عن توازن القوى بين القوى الحية لتلك الطبقات في عملية الثورة. لقد كان العمال والفلاحون هم القوة المحركة للحركة الثورية ولذلك كانوا يستطيعون أن يكونوا القوة المكونة لدولة تأخذ على عاتقها مهمة قمع المقاومة الحتمية للبرجوازية في عملية استمرار الثورة. حصيلة النضال المشترك بين هذه القوى، وبهذا التوازن الواقعي للقوى، لم يكن قادراً على أن يكون دكتاتورية البروليتاريا. فإذا كانت دكتاتورية طبقتين تشكل تناقضاً، وهو تناقض بالفعل، فإن هذا التناقض يجب أن يحسم أمره ويُحل من تلقاء نفسه في التاريخ الواقعي والمادي وبمرور الزمن. ولتحليل هذا المسار سيظهر، كما يقول لينين، الكثير من المؤرخين. ولكن الدولة الثورية "لطبقتين" هي حصيلة ثورة "طبقتين". فلو كان بوسع الانتفاضة وعملية الثورة من الأسفل أن تكون تركيبة غير متجانسة من الطبقات والشرائح الاجتماعية (مثلما كانت عليه في عام ١٩٠٥)، فإنه يمكن لاستمرار الثورة "عشية الانتفاضة" أن يتواصل من خلال هذه الطبقات على شكل دولة معينة، طالما أن الثورة ظاهرة قائمة وموجودة بالفعل. الدولة الثورية المكوَّنة من "عدة طبقات" ثائرة، ليست بتناقض "نظري"، بل، بالعكس، هي ضرورة نظرية ناجمة عن فهم واقع الثورة الجماعية وخصائص وسمات المرحلة الثورية بوصفها مرحلة تكتيكية في عام ١٩٠٥. وقد تغير في ثورة عام ١٩١٧ توازن القوى هذا وطريقة مشاركة أقسام المجتمع المختلفة، وكذلك القضايا المحورية التي استقطبت حولها الطبقات مقارنة بثورة عام ١٩٠٥. ومن البديهي أن قسماً من هذا التغيير هو نتاج وحصيلة ١٢ عاماً من تطور روسيا، فيما كان القسم الآخر ناجم عن تصاعد أزمة الرأسمالية العالمية لدرجة اشتعال فتيل حرب عالمية مدمرة. ولكن في كل الأحوال فإن النتيجة العملية لهذه التحولات هي في صراع الطبقات وتأثيراتها على توازن القوى الواقعي بين القوى الثائرة وهذا ما غيَّر الإمكانات العملية للبروليتاريا في علاقتها بالسلطة السياسية. وهو نفس الأمر الذي جعل لينين يضع في جدول الأعمال سياسة تشكيل الحكومة العمالية، وهذه المرة "بالحصول على الدعم" من الفلاحين الفقراء. بوسع الدولة الثورية أن تكون دولة العمال. ولم يُعِد لينين النظر في منهجه ورؤيته، بل إن الواقع العملي وفر إمكانية إقامة حكومة عمالية وقمع الثورة المضادة من قبل دولة ثورية عمالية. واليوم حين نتأمل تجربة ثورة أكتوبر بعد مرور سنوات طويلة ندرك أن نفس دولة "الطبقة الواحدة" هذه أصيبت بتناقضات أصابت دولة "الطبقتين" الثورية والمتناقضة. نفس الضرورة المصيرية لكسب دعم الفلاحين بسبب ثقلهم السياسي والاقتصادي والدور الذي كان عليهم لعبه في عملية عزل وإحباط الثورة البرجوازية المضادة المسلحة، الروسية وغير الروسية، جعلت الدولة الثورية تواجه مشقات ومصاعب أساسية وتترك طابعها على عملية تكوين تلك الدولة. ولكن ليس بوسع أي شخص أن يستنتج من هذه التناقضات ومن نقص قوة العمال في فرض سلطتهم وبالتالي من الضغوطات السياسية والاقتصادية للطبقات اللاعمالية، أن تشكيل حكومة ثورية عمالية مع الأخذ بنظر الاعتبار البنية التحتية الاقتصادية الروسية هو أمر "سابق لأوانه"، لأن هذه الحكومة هي فقط القادرة على ضمان استمرار الثورة من فوق (وكذلك من تحت) في كافة النضال من أجل قمع المقاومة الحتمية للثورة البرجوازية المضادة في روسيا. الفهم اللينيني للمراحل الثورية والدور المؤثر للدولة في عملية الثورة في تلك المراحل هو دليل على حقيقة أن التدخل السياسي الفعال ليس بنقض للأصول الماركسية، ولا يتطلب أيضاً أعادة نظر في تعريف التفسيرات الماركسية وخصوصاً في المادية التاريخية ونظرية الدولة، بل أنه ناجم عن نفس هذه النظرية وعن هذه المادية. المنشفية واليسار الليبرالي يضع تقليدياً الممارسة الشيوعية في مواجهة "النقاء" النظري. ومن غير شك أن الممارسة الشيوعية تتناقض وتتضاد مع الصياغات النمطية النظرية للمادية الميكانيكية والروايات المشوهة للماركسية من قبل الحتميين الاقتصاديين. ولكن الماركسية القادرة على معرفة قوانين حركة المجتمع وسمات الظواهر الاجتماعية ومن ضمنها الدولة في المراحل الثورية، لا تضع النظرية في مواجهة التدخل و"الوصول الى السلطة السياسية"، بل وأنها ترى فيها مصدراً ثراً من الإرشاد والتوجيه من أجل أكثر أشكال التدخل الثوري فعالية في المجتمع. لقد استنتجنا الجمهورية الثورية والطلب عليها من نفس هذا المنهج وليس من أي وصف مرحلي للثورة. و بعد التوضيح الدقيق والموجز لضرورة وإمكانية الثورة الاشتراكية وتعريف هذه الثورة بوصفها فلسفة وجودنا وأساس تنظيمنا، توصلنا في برنامج الحزب الشيوعي الى النقطة القائلة بأن الطبقة العاملة في إيران ليست بقادرة ومستعدة في الأوضاع الراهنة على إقامة حكومتها الخاصة الآن. خلق هذا الاستعداد هو وظيفتنا نحن. ولكن، في كل الأحول، ثمة تركيبة من قوى المجتمع الطبقية تمتلك القدرة على تحقيق "ثورة أخرى". وهذه الثورة هي ثورة من أجل الديمقراطية كما أنها جزء من كل عملية الثورة العمالية. انتصار مثل هذه الثورة يساعد على الثورة العمالية. انتصار هذه الثورة بالقوى الواقعية الموجودة فعلاً الآن للطبقات المتطلعة للديمقراطية الثورية هي قضية عملية. هذه الثورة يجب أن تُسقِط حتماً الدولة الموجودة والنظام السياسي القائم. فما الذي يمكن ويجب أن يحل محلهما؟ يقول مناشفتنا ينبغي أن تقوم دولة أزف موعدها من الناحية "التاريخية". فإذا لم يحن الوقت لدكتاتورية البروليتاريا، أو إذا لم تستطع، على أية حال، هذه الدولة الناجمة عن "الثورة الأخرى" أن تكون دكتاتورية البروليتاريا، فإن كل شيء ومن ضمنه تلك الحكومة الثورية ستكون بالضرورة "سمائية اللون" وبرجوازية من أعلاها الى أسفلها حسب ما يزعمون. التدخل المبكر جداً في مسألة السلطة السياسية وتشكيل حكومة ثورية لن تكون عاقبته سوى التحول الى وسيلة بيد البرجوازية أي "الطبقة السائدة من الناحية الاقتصادية"! ولكن ماذا تقول الماركسية؟ بالنسبة لنا كماركسيين نمتلك تجربة لينين الحية والخلاقة في العملية الثورية، فإن القضية بالنسبة لنا هي بهذا الشكل: ما الذي سيحل محل الدولة البرجوازية المنهارة كي تتمكن الثورة من أجل الديمقراطية الاستمرار بأعمق درجاتها وأن لا تُبتذَل ولا تتحول الى تبادل بسيط في الأدوار بين القوى السياسية البرجوازية في السلطة؟ كيف يمكن إحباط المقاومة الحتمية البرجوازية لهذه الثورة؟ قبل أن تعود اللينينية في المرحلة الثورية الى "الاقتصاد"، تعود إلى الانتفاضة وضرورة استمرار النضال الراسخ من أجل الأهداف الثورية. الدولة الثورية هي شكل استمرار ذلك النضال من الأعلى وفي نفس الوقت الوسيلة المؤثرة لتوسيع نطاقه من الأسفل. والمرحلة الثورية هي مرحلة ممارسة القمع المنظم:
"في
التحليل الأخير فإن قوة القمع فقط هي من يحسم القضايا المهمة للحرية السياسية
والصراع الطبقي. ووظيفتنا هي أن نهيئ ونعد وننظم قوة القمع تلك. ليس فقط من أجل
الدفاع، وبل وكذلك من أجل الهجوم بالشكل الصحيح. سلطة الرجعية السياسية الطويلة
الأمد في أوروبا المستمرة تقريباً منذ أيام كومونة باريس وحتى الآن، جعلتنا
نعتاد الى حد كبير على فكرة أن الممارسة يمكنها فقط أن تتقدم من "الأسفل". وهذا
ما جعلنا نعتاد الى حد كبير على أن نرى فقط النضال الدفاعي، ونحن الآن نقف على
أعتاب مرحلة جديدة. لقد بدأت مرحلة الاضطرابات والثورات. وفي مرحلة مثل ما تمر
به روسيا الآن، ليس من المقبول البقاء في الأطر المحدودة للصيغ النمطية
والشكلية السابقة. يجب أن ندعو "للعمل من الأعلى"، ويجب أن نتهيأ ونستعد لأكثر
الأعمال الهجومية فعالية. وعلينا أن نحلل ظروف وأشكال مثل هذا العمل". الجمهورية الثورية بالنسبة لنا هي مواصلة القمع الثوري عشية السقوط عن طريق إقامة حكومة ثورية مؤقتة. هذه الحكومة الثورية هي مسألة مصيرية. فإذا كان هناك شخص يمنح أهمية للديمقراطية السياسية من أجل تسهيل قضية النضال الاشتراكي، إذا كان هناك شخص يريد الثورة من أجل الديمقراطية، أو حتى إذا كان هناك شخص لديه عينان ويرى أنه حتى لو لم يقم هو بالثورة، ثمة طبقات وشرائح اجتماعية معينة بصدد القيام بالثورة من أجل الديمقراطية، حينذاك عليه الإجابة على مسألة ما الذي ستكون عليه نتيجة هذه الثورة بخصوص السلطة السياسية. وما الذي يجب على القوى الثورية القيام به عشية السقوط وفي خضم المقاومة البرجوازية الحتمية. نحن نقول يمكن، ويجب حتماً تشكيل دولة ثورية تمثل ممارسة إرادة الشرائح الثورية "من الأعلى". يجب الإمساك بالسلطة السياسية واستخدامها ضد الثورة المضادة المحبطة والتي مازالت حية وفعالة. وأي شخص يرى تناقضاً بين هذا الحكم وبين النظرية الماركسية عن الدولة، والأهمية الحاسمة للاقتصاد وغير ذلك، لا يفهم في الواقع أي شيء عن هذه الأمور. الدولة في المرحلة الثورية هي ظاهرة مؤقتة وفي مرحلة انتقالية وحالة من التحول والتغيير. تنبع من الثورة وتجيب على قضايا الثورة القائمة والفعلية. التناقضات الداخلية لهذه الدولة، مستقبلها وعملية زوالها أو اضمحلالها، استمرار الأزمة الثورية وغير ذلك، لا تقلل من الدور الواقعي والمادي الذي يمكن للدولة الثورية أن تلعبه في مرحلة معينة في الصراع الطبقي. لقد كان تيارنا من أول التيارات التي أبرزت فكرة تناقض الرأسمالية والديمقراطية في إيران بشكل كامل وبالأدلة الواضحة بمثابة جزء من نقد الشعبوية المسيطرة على الحركة الشيوعية واستطاع القيام بدور مهم في تبديد أوهام اليسار الإيراني بهذا الخصوص. ولكننا في نفس الوقت وضعنا في برنامجنا إقامة دولة ثورية ديمقراطية. وقد أتضح الآن تماماً لماذا قمنا بهذا الأمر، لأننا لا ننظر الى الجمهورية الثورية بوصفها "بناءاً فوقياً سياسياً للاقتصاد الإيراني"، بل نعتبرها "دولة في مرحلة ثورية" عليها تنظيم ممارسة الكادحين القمع من الأعلى، من أجل قضية الديمقراطية. فإذا كانت الثورة من أجل الديمقراطية ممكنة، حينذاك لا تكون الدولة الثورية الديمقراطية ممكنة فقط، بل ومصيرية أيضاً. أما ما هي المدة التي يجعل فيها المسار التاريخي من الثورة نفسها والدولة الثورية "عتيقين" ويضع دكتاتورية البروليتاريا في جدول الأعمال الراهنة، فإنه أمر آخر. ومن دون شك أننا لا نضع الآن في جدول أعمالنا فقط النضال من أجل دكتاتورية البروليتاريا (الحكومة العمالية شعارنا)، بل وأننا سنكون، كما كان البلاشفة، أول من يعلن "قِدَم" الثورة والأهداف الثورية القديمة. إن فهم خصائص وسمات الدولة في المراحل الثورية هو الشرط اللازم للتعامل الفعال والمتدخل في مسألة السلطة السياسية. اليسار الإيراني المعاصر وبرؤيته الميتافيزيقية والقدرية عن الدولة وعلاقتها بالاقتصاد، يفتقر على الأقل من الناحية النظرية لمثل هذه القدرة على التدخل النشط والفاعل.
الدولة في المراحل الثورية
الدولة البرجوازية في المرحلة الثورية ليس صعباً توضيح خصائص وممارسات الدولة البرجوازية في الظروف الاعتيادية. صعوبة المسألة حين يبدو أن الدولة البرجوازية قد وصلت الى السلطة في سياق عملية ثورية وباسم الثورة. وقد كانت الجمهورية الإسلامية في بداية الأمر نظاماً من هذا النوع. وقد أصابت ظاهرة الجمهورية الإسلامية قسماً عريضاً من قوى اليسار بالحيرة والإرباك من الناحية النظرية لفترة من الزمن. وبغض النظر عن أوهام الشعبويين القومية المتجذرة بخصوص "البرجوازية الوطنية والبرجوازية الصغيرة المناهضة للإمبريالية" وما يترتب على ذلك من رغبة أقسام من الاشتراكية البرجوازية الصغيرة بـ"المساندة المشروطة" وغير المشروطة للجمهورية الإسلامية، فإن نفس مكانة ودور هذا النظام طوال السنوات الأولى للثورة والعملية التي أسفرت عن قيام هذه الدولة، تضاف الى هذا الإرباك والاضطراب الفكري. إن تمكن البرجوازية ، خصوصاً بعد "مسيرات التاسوعاء"، من تحويل شعار الحكومة الإسلامية الى شعار جموع الجماهير الغفيرة، وواقع أن بعضاً من قادة النظام الجديد كانوا في السابق جزءاً من المعارضين الأشداء للنظام الملكي، وهجمة التيار الإسلامي على الاتجاه الليبرالي-الدستوري في الجبهة الوطنية، وشعارات النظام المعادية لأمريكا وقدرة الحكومة على تعبئة الجماهير في الأشهر الأولي للثورة، كانت جميعها عوامل جعلت اليسار الشعبوي عاجزاً عن فهم طابع الجمهورية البرجوازي والمناهض للثورة بالرغم من جميع الأسباب والوقائع المعروفة قبل الثورة فيما يتعلق بالمطالب والأهداف الرجعية للتيار الإسلامي وبالرغم من كل خطوات وممارسات النظام المكشوفة المعادية للثورة بعد قيامها. وكان يعتبر، الى فترات قريبة، إطلاق تسمية نظام برجوازي على الجمهورية الإسلامية نوعاً من "اليسارية" من وجهة نظر الشعبويين (وهذا ما تقوله الآن منظمة راه كاركر-طريق العامل). وقد ظهر منظرو الاشتراكية الشعبوية بفانوس "تعاليمهم" النظرية باحثين عن الجذور "الطبقية" لهذه الدولة في اقتصاد المجتمع والمصالح الاقتصادية للشرائح والفئات اللاعمالية. وما اكتشفته التيارات المختلفة حول الأساس والانتماء الطبقي لهذه الدولة اكتشاف ظاهري. حيث أن أساس هذا الاكتشاف هو الفهم القاصر والاقتصادي عن الدولة والعجز عن تشخيص أسس عمل الدولة البرجوازية في المراحل الثورية. لقد سمينا حكومة الجمهورية الإسلامية منذ البداية أداة البرجوازية والإمبريالية. إذ كتبنا في (مقدمة لكراسة "اعتصام العمال في وزارة العمل") في آذار عام ١٩٧٩:
"الوقائع
اليومية للثورة والصراع الطبقي توفر، يوماً بعد آخر، الأساس لنبذ الأوهام
البرجوازية الصغيرة وثقة الكادحين الصامتة بالحكومة الحالية. وتتبلور هذه الثقة
الصامتة التي تشكل المنبع الرئيسي لقدرة الرأسماليين في إجهاض الثورة
الإيرانية. كل يوم يسأل العمال والكادحون أنفسهم هل الحكومة التي تمنع ارتقاء
وتطور الحركة العمالية وتعبئة الجماهير الكادحة بقيادة الطبقة العاملة، هي
حكومة وطنية وثورية؟ هل الحكومة التي ..تسلب الحريات، تخنق حرية التعبير، تقمع
التجمعات وتعتبر الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تنشط في صالح مصالح الطبقة
العاملة أحزاباً وتنظيمات "متآمرة"، "متمردة" و"أكثر ملكية من الملك"، هي حكومة
ثورية؟ هل الحكومة التي تطلق النار على مسيرات العمال العاطلين عن العمل
العادلة في أصفهان ثم تدعي غياب السلطة هناك، هي حكومة ثورية؟ هل الحكومة التي
تعتقل العمال الواعين، وتخلق الانقسامات القومية، الدينية، الجنسية، والعمرية
وغيرها فيما بينهم كي تصبح عقبة أمام اتحادهم، هي حكومة ثورية؟ ..كلا، الحكومة
الحالية ليست أبداً هيئة لثورة وانتفاضة الكادحين. الرسالة التاريخية للحكومة
الحالية والتي هي في الحقيقة حكومة "مؤقتة" من منظار مصالح الإمبريالية الطويلة
الأمد في إيران، هي إنقاذ الرأسمالية والإمبريالية من عاصفة ثورة جماهير إيران
الكادحة والمناضلة". ص
٣-٤ ومع بداية إصدار نشرة بسوي سوسياليسم (نحو الاشتراكية) وضحنا الأسس النظرية لتحليلنا هذا للجمهورية الإسلامية في سلسلة مقالات "جناحان في الثورة المضادة البرجوازية-الإمبريالية". في تلك المقالات ومع التأكيد على الخصائص والسمات الأصلية لعمل الدولة البرجوازية في المراحل الثورية ومع ذكر خصائص وسمات الجمهورية الإسلامية تلك واحدةً واحدة وفوائدها للبرجوازية والإمبريالية، كررنا القول أن النظام الإسلامي هو حكومة برجوازية تحقق السياسة البرجوازية الإمبريالية وكل البرجوازية الإيرانية في مواجهة الثورة الإيرانية. وكان محور استنتاجنا واستدلالنا هو أن الثورة هي معضلة البرجوازية في المرحلة الثورية وليس الاقتصاد. وكانت إقامة "نظام ضد الثورة" سواء من الناحية التاريخية أو من الناحية التحليلية أمراً في صدر الأولويات بالنسبة للبرجوازية. الدولة البرجوازية "المبتغاة" في هذه المرحلة هي الدولة القادرة على الاستفادة من العناصر المادية والمصالح السياسية الموجودة في الأوضاع الثورية، خصوصاً بالأخذ بنظر الاعتبار تراجع أهمية وتأثير مؤسسات القمع والسيطرة التقليدية، من أجل الإجهاز على الثورة. وقد كانت الدولة البرجوازية-الملكية في إيران في حالة من الاضمحلال في الأعوام ١٩٧٨-١٩٧٩. إذ كان شبح الثورة يحوم على رأس البرجوازية. وفي هذه الأثناء كان التيار الليبرالي للجبهة الوطنية ونهظة الحرية أكثر التيارات نشاطاً في الوقوف بوجه الانتفاضة والمحافظة على مؤسسات القمع لدى الدولة الاعتيادية القائمة، أي الجيش والبيروقراطية. موقف الليبراليين هذا وقدراتهم المحتملة في جر معسكر الثورة الى المساومة بهذا النوع من المطالب الجزئية، ينسجم مع سياسات البرجوازية الإيرانية الكبيرة التي كانت في مسار تراجع تكتيكي مقابل أمواج الثورة. وكان الليبراليون يمثلون الى فترات معينة أكثر البدائل البرجوازية جدية وأكثرها "جدارة بالادخار" من أجل الحفاظ على الأوضاع القائمة والسلطة السياسية. وكان حكومة (شابور بختيار) آخر المحاولات البرجوازية للسيطرة على الأوضاع من خلال فرض التراجع على مواقف الليبرالية الملكية. وكان هذا التراجع التكتيكي البرجوازي من أجل تجاوز أمواج الثورة والاستعداد من أجل إعادة أوضاع ما قبل الثورة. إلا أن الانتفاضة قلبت كل هذه الحسابات. والآن أصبحت المسألة تدور حول قمع الثورة التي وصلت عملياً لمرحلة الانتفاضة المسلحة، والتي أسكتت الجيش وجعلته عديم الأثر وسلحت الجماهير الثورية الغفيرة. ولهذا تخلف برنامج التيار الليبرالي السياسي وأساليبه وإمكاناته عن واقع المجتمع وحقائقه. ولم يكن بوسع الدولة البرجوازية سوى مواجهة الثورة الحقيقية باسم الثورة. وقد كان التيار الإسلامي العنصر المناسب لتشكيل مثل هذه الدولة، أي الدولة البرجوازية القادرة على تنظيم الثورة البرجوازية المضادة في تلك الفترة المعينة. إذ أكدنا نحن أن الجمهورية الإسلامية هي وسيلة إقامة نظام الثورة المضادة بمثابة الشرط السياسي الأولي لنظام الإنتاج البرجوازي المألوف. وقد كان الطابع البرجوازي التام للحكومة الإسلامية، بمعزل عن مسألة من أي قسم من أقسام المجتمع نبعت أيديولوجيتها، وأساليبها ونسيجها وتركيبتها، في أن هذه الحكومة هي الشكل الوحيد الممكن لتنظيم الثورة البرجوازية-الإمبريالية المضادة وبالتالي الشكل المطلوب لهذا التنظيم بالنسبة للبرجوازية منذ عام ١٩٧٩ وما تلاه. ربما ينتقدنا البعض (وهم ينتقدوننا في الواقع) بالقول لماذا لم نلعن في ذلك الوقت بأن الجمهورية الإسلامية هي الممثل السياسي للبرجوازية الكبيرة والاحتكارية. وهذا هو في الواقع نفس الفهم الاقتصادي القاصر عن الدولة مع الاختلاف في أنه هذه المرة يقبل بالسمة البرجوازية للجمهورية الإسلامية ولهذا يريد إلقاء ما بيده. والواقع هو أن الجمهورية الإسلامية، كما كنا قد حللناه، لم تكن المنظمة السياسية والممثل التنظيمي للبرجوازية الكبيرة الإيرانية. بمعنى أن هذا النظام لم يكن في تلك الفترة وسيلة إظهار الوجود السياسي ومركز تلاقي وتمثيل أراء سياسيي هذه الطبقة ووسيلة تنظيم الرأسماليين. بل كانت الدولة "السياسية" لهذه الطبقة في المرحلة الثورية. وهذا بحد ذاته أوجد التناقض في مسار حركة الجمهورية الإسلامية. تحول الجمهورية الإسلامية الى نظام سياسي برجوازي اعتيادي، أي الى شكل اعتيادي تجعله البرجوازية على رأس السلطة السياسية من أجل الحفاظ على علاقاتها الإنتاجية، هو عملية معقدة وشاقة. وعجز الجمهورية الإسلامية في طي هذه العملية هو بحد ذاته أحد أبعاد الأزمة الحكومية اليوم في إيران. فبالدرجة التي يتجاوز فيها المجتمع الإيراني الأزمة الثورية وعليه يجب أن تقوم الدولة في مكانها المألوف وأن تعمل وفقاً للأساليب المتعارف عليها، تبتعد الجمهورية الإسلامية عن الأشكال العملية التي اتخذتها طوال الثورة وهذا ما يعمق من أزمة النظام السياسية. كذلك بالدرجة التي نرى فيها الأزمة الثورية في إيران تواصل استمرارها، بنفس الدرجة تضطر الجمهورية الإسلامية للعمل بالأساليب "غير المألوفة" والتي تخلق فجوة بين الدولة الرأسمالية والتوقعات العادية لنفس هذه الطبقة. في مثل هذه الأوضاع حللنا بشكل صحيح ومن خلال الوصف الديالكتيكي لحركة الجمهورية الإسلامية بوصفها "دولة البرجوازية في المرحلة الثورية"، خصائص وسمات هذا النظام وانتماءه الطبقي بوصفه نظاماً برجوازياً. الجمهورية الإسلامية هي ممثل ودولة البرجوازية في إيران، لأنها كانت ومازالت الشكل الحكومي الممكن لهذه البرجوازية في قلب ثورة ١٩٧٩ وغليان السنوات التي تلتها. ولكن إذا كان مقرراً إنهاء هذه الأزمة الثورية، وإذا لم تخلق الموجة الجديدة للنضال الجماهيري مرة أخرى أوضاعاً ثورية جديدة في إيران، حينذاك ستكون الجمهورية الإسلامية في شكلها القائم ضحية نفس تناقضها الداخلي. فإما يسقط النظام الإسلامي من خلال ثورة جديدة أو أنه سيتغير الى الحد الذي لا يمكن أن يكون قابلاً لتمييزه في حالة الانتهاء التام للأزمة الثورية والسياسية في إيران. ومن الواضح أن نفس النظام الإسلامي يتطلع لأن يتحول بأقل ما يمكن من التغييرات والتعديلات الى دولة البرجوازية الإيرانية المألوفة وجعل البرجوازية تتضامن سياسياً وتنظيمياً تماماً معه. إلا أن وجود أحزاب برجوازية عديدة في المعارضة المتطلعة لإسقاط هذه النظام، ومشاكل النظام الإسلامي في كسب دعم ومساندة الرأسمال الخاص والعلاقة المضطربة والحافلة بتجاوزات هذا النظام مع هذا القسم من الرأسمال، دليل على عدم وجود وحدة الكلمة هذه والقبول العملي والشامل بين أوساط البرجوازية الإيرانية حتى الآن. وإذا كان الخوف من الثورة والشيوعية يضطر, في كل الأحوال، جميع الشرائح البرجوازية الى مساندة النظام الإسلامي، فإن عجز النظام عن القيام بدور دولة برجوازية عادية, هو أساس الانقسام الحاد الموجود بين صفوف ممثلي البرجوازية الإيرانية السياسيين. على أية حال وبمعزل عن مسألة إن كان النظام الإسلامي قادراً على التحول الى دولة عادية، أو إسقاطه من قبل الثورة، فإن عملية تحويل المجتمع من مجتمع مرحلة الثورة الى مجتمع اعتيادي قد بدأت منذ مدة طويلة. وقد أشرنا في القسم الأخير من مقالات "جناحان في الثورة ..." الى هذا المسار في أوضاع المجتمع الإيراني السياسية. وأحصينا مجموعة من التحولات والتغيرات التي تحققت بمبادرة الجمهورية الإسلامية وبدعم كافة شرائح البرجوازية من أجل إنهاء الأوضاع الثورية في إيران وتهيئة الأرضية من أجل إقامة دولة برجوازية اعتيادية. وإذا كان هناك أحد يتعقب دليلاً على برجوازية الجمهورية الإسلامية، ستكون واحدة من هذه النقاط الأساسية كافية بالنسبة له: تقديس وإضفاء الشرعية على الملكية والاستغلال الرأسمالي الذين وقع أثناء الثورة تحت طائلة السؤال. لقد كان من اللازم أن تحظى الملكية بالشرعية. فما هو الأكثر طبيعية من أن تكون شرعية منذ البداية من خلال تحويلها الى ملكية الدولة التي تبدو ظاهرياً أنها ناجمة عن الثورة؟! الانقضاض على المكتسبات الديمقراطية للثورة وإخضاع الجماهير للحرمان من الحقوق السياسية. وتخطئة وقمع الأهداف الديمقراطية للجماهير في تعريفها كمطالب "غربية" و"إمبريالية" وبالاستناد على الترهيب والتحميق الديني للجماهير. وأثناء عملية هجوم النظام على المكاسب الديمقراطية للثورة، استعادت البرجوازية بمثابة طبقة انسجامها وسلطتها السياسية. إعادة بناء أجهزة القمعية الأساسية والاعتيادية، تصفية وإعادة بناء القوات المسلحة النظامية، الشرطة السياسية ومؤسسات البيروقراطية الحكومية. إرغام الجماهير على القبول بمستويات المعيشة المتدنية والنتائج الكارثية للأزمة الاقتصادية. هذه الأزمة كانت تشكل في المرحلة السابقة نفس الأسس المادية للأزمة الثورية وقد ألقت أجنحة الجمهورية الإسلامية المختلفة عملياً تبعات ووطأة مصائب هذه الأزمة على كاهل العمال والكادحين. تبرئة ذمة الإمبريالية والإمبرياليين، وتفريغ النضال ضد الإمبريالية من معانيه، وتبرير العلاقات الدبلوماسية، الاقتصادية والعسكرية للبرجوازية الحاكمة مع الدول الإمبريالية والرجعية العالمية. القمع الواسع النطاق للحركة الشيوعية وقيادة الاحتجاجات الديمقراطية للشرائح اللاعمالية تحت راية المعارضة الليبرالية المؤدبة. كان ينبغي قمع الشيوعيين الذين بدأوا بالنضال العلني والواسع النطاق بمنتهى القسوة والعنف من أجل بعث الأوضاع السابقة، وفي نفس الوقت كان ذلك ضرورياً كي يجري فرض التراجع على الشرائح اللاعمالية التي ظهرت في المرحلة الثورية تحت راية الليبرالية الى مستوى شعارات معارضة ليبرالية. هذه كانت جملة من الأوضاع التي سعت الجمهورية الإسلامية بوصفها دولة البرجوازية في المرحلة الثورية بجد من أجل تحقيقها. وكل هذه كانت توفر الأرضية لبعث أوضاع السلطة البرجوازية الاعتيادية وغير المتأزمة في المجتمع. وبالدرجة التي تتحقق فيها هذه الأوظاع كان المجتمع يتجاوز المرحلة الثورية وبالتالي كان على الدولة البرجوازية، بوصفها جزءاً من نفس هذه الأوضاع، أن تعود الى شكلها ومظهرها المألوف الاعتيادي. صعوبة إنجاز هذه العملية وطيها هي أحدى عوامل الأزمة بالنسبة للنظام الإسلامي. فإما أن تدفع موجة جديدة من النضال الثوري المجتمع الى مرحلة جديدة من تطوره السياسي بإسقاط الجمهورية الإسلامية، أو أن على الجمهورية الإسلامية أن تترك مكانها، سواء بتغيير شكها أو باستبدالها، لدولة ذات سمات وخصائص تنسجم وتتطابق مع إدارة مجتمع برجوازي غير متأزم. إن البرجوازية والجمهورية الإسلامية هما الآن بين فكي كماشة هذين المسارين الممكنين. فالنظام الإسلامي يقاوم ضغوط البرجوازية من أجل التغيير السلمي والتدريجي للحكومة الموجودة بحكومة اعتيادية. ومن جهة أخرى فإن أية محاولات من أجل الاستبدال والتغيير المفاجئ والقسري لهذه الحكومة من قبل البرجوازية سيعمق من الأزمة السياسية ويفسح المجال مجدداً لدخول الجماهير الغفيرة المتطلعة لإسقاط هذا النظام بالثورة الى الميدان. لا الأزمة الثورية على هذه الدرجة من الهدوء بحيث يصبح من السهل بالنسبة للبرجوازية تغيير الدولة الموجودة والتي اكتسبت أهميتها بالنسبة للطبقة البرجوازية من ضرورة تنظيم الثورة المضادة، ولا الثورة هي تهديد عاجل وبالفعل بحيث تقبل البرجوازية تماماً بالجمهورية الإسلامية بمثابة "دولة منظمة للثورة المضادة" بوظائف ومهام محدودة سياسية وتتحد في دعمها ومساندتها. هنا يجب البحث عن أسس العلاقة المتناقضة الحالية بين البرجوازية والجمهورية الإسلامية. وعلى أية فإن ما ينبغي التأكيد عليه في هذا الجزء هو أن الانتماء الطبقي للجمهورية الإسلامية، ممارستها وعملها وأفق حركتها، ينبغي أن يتم تحليلها على أساس فهم خصائص وسمات الدولة البرجوازية في المرحلة الثورية. الدولة البرجوازية في المرحلة الثورية يجب أن تكون دولة تجيب على مصالح وأولويات البرجوازية في مثل تلك المرحلة. وليس بالضرورة أن تكون الدولة البرجوازية الطويلة الأمد و"والأكثر تطابقاً وانسجاماً مع الاقتصاد" نفس الدولة التي تأخذ على عاتقها في المرحلة الثورية رسالة الدفاع عن مصالح البرجوازية.
الدولة في المراحل الثورية المرحلة الثورية ودكتاتورية البروليتاريا
ولكن بالأخذ بنظر الاعتبار ما قلناه حول "المراحل الثورية" بالمعنى المحدود للكلمة اختلاف هذه المراحل عن المرحلة الانتقالية بالمعني الأوسع للكلمة، يجب أن نقول أن التقسيم الوارد أعلاه ومقولة "المرحلة الانتقالية" مازالت غير محددة وملموسة بالدرجة الكافية. إذ أن هناك تساؤل مازال من الممكن طرحه: هل أن المجتمع سيدخل على الفور "المرحلة الدنيا" للمجتمع الاشتراكي بمجرد تدمير آلة الدولة البرجوازية؟ ألا يوجد تقسيم مرحلي أكثر تحديداً في نفس العملية الانتقالية وفي دكتاتورية البروليتاريا بمثابة دولة المرحلة الانتقالية؟ باعتقادي أن علينا هنا أن نُدخِل في تحليلنا تقسيماً مرحلياً آخر. دكتاتورية البروليتاريا (أو المرحلة الانتقالية بشكل كلي) تشمل مرحلتين مهمتين ومختلفتين الى حد ما. الأولى مرحلة الاستقرار السياسي لدكتاتورية البروليتاريا والثانية مرحلة الانتقال الاجتماعي في ظل دكتاتورية البروليتاريا "الراسخة". المرحلة الأولى تبدأ على الفور بإقامة دولة دكتاتورية البروليتاريا. وتعمل الدولة العمالية في هذه المرحلة بمثابة دولة العمال الثورية المؤقتة، "دولة المرحلة الثورية". المهمة والأولوية الأساسية لهذه الدولة، حالها حال أية دولة ناجمة عن الثورة، هي قمع المقاومة الحتمية والمستميتة للرجعية المهزومة أي البرجوازية الساعية لاستعادة سلطتها السياسية. السمة الأصلية لهذه المرحلة استمرار الأزمة الثورية، وجود ثورة مضادة منظمة برجوازية تلجأ للقوة والعنف ضد الثورة، الاحتمال الموضوعي لاستعادة السلطة البرجوازية بوسائل سياسية وعسكرية، عدم الاستقرار السياسي وعدم اليقين في تثبيت سلطة البروليتاريا السياسية وما شابه ذلك. وبالدرجة التي تهزم فيها دولة دكتاتورية البروليتاريا مقاومة البرجوازية وتحقيق الظفر والنصر السياسي للطبقة العاملة، فإن هذه المرحلة تقترب من نهايتها. وبعبارة أخرى فإن دكتاتورية البروليتاريا في هذه المرحلة هي "الدولة المؤقتة" لدكتاتورية البروليتاريا، ذات خصائص وسمات دولة مؤقتة ثورية كما أشرنا إليه فيما تقدم. خصائص وأساليب هذه الدولة لها صلة طبيعية بعملية الثورة والانتفاضة. هيئات وأجهزة هذه الدولة، تنظيم السلطة في هذه الدولة، العلاقة الحقوقية والفعلية لهذه الدولة بطبقتها، القوى المكوِّنة لهذه الدولة وقيادتها، تتبلور بشكل طبيعي في استمرار عملية الثورة وتتخذ طابع القيادة والعلاقات والقوى المكوِّنة لمعسكر الثورة. والمرحلة الثانية هي مرحلة الاستقرار السياسي لسلطة البروليتاريا. وفي هذه الدورة تعمل دكتاتورية البروليتاريا بمثابة دولة أي أنها "غير مؤقتة". وهنا يتجسد مادياً التعريف الماركسي الأكثر شهرة لدكتاتورية البروليتاريا بمثابة التنظيم المباشر لكل الطبقة العاملة كطبقة حاكمة و ترسيخ الديمقراطية البروليتارية في أكثر أشكالها شمولاً. هذه "دولة" رمت "العكازات" بعيدا، وألقت بآثار وعلامات عملية تبلورها وولادتها وهي تعبر عن الظفر السياسي لطبقة اجتماعية بالمعنى الواقعي للكلمة والحضور المباشر لأفراد هذه الطبقة في عملية صنع القرار وإدارة الأمور. هنا إذن لا يوجد أي عنصر "مؤقت" في هذه الدكتاتورية، إلا إذا كان بنفس المعنى العام لعملية زوال الدولة. هذه إذن ليست "دولة ثورية مؤقتة"، بل هي تعبير عن اقتصاد وعلاقات اجتماعية معينة ويجب أن تكون انعكاساً سياسياً لهذه العلاقات التي هي في طور النمو وضمان نموها وتطورها بشكل مباشر. بعبارة أخرى فإن هذا التقسيم المرحلي الذي نتحدث عنه هنا مرادف لمرحلتين من حياة دكتاتورية البروليتاريا. الأولى، المرحلة الثورية، أي تلك المرحلة التي يكون فيها بقاء الحكومة البروليتارية معرضاً للخطر من النواحي السياسية والعسكرية ويكون قمع المقاومة البرجوازية السياسية والعسكرية وترسيخ النصر السياسي للثورة في صدر الأولويات. والثانية، مرحلة الاستقرار، أي التي تستطيع فيها دكتاتورية البروليتاريا الانشغال بقضية تغيير أسس وبنية المجتمع الاقتصادية. في المرحلة الأولى نحن نواجه دكتاتورية البروليتاريا بمثابة "دولة المرحلة الثورية" وفي المرحلة الثانية دكتاتورية البروليتاريا بالمعنى الكلاسيكي والشامل للكلمة، أي دكتاتورية البروليتاريا بمثابة بناء فوقي سياسي لكل المرحلة الانتقالية بين الرأسمالية والشيوعية. ومن الواضح أن هاتين المرحلتين لا يمكن فصلهما عن بعضهما البعض بحسابات رياضية دقيقة، بل يمكن التمييز بينهما من خلال الأولويات والمهام المختلفة بالنسبة لدكتاتورية البروليتاريا. هذه الأولويات ليست اعتباطية، بل إنها ناجمة عن الظروف الموضوعية وتوازن قوى الطبقات الاجتماعية. ونفس هذا الفصل والتمييز ليس بأمر جديد في الماركسية (ما يبدو جديداً في بحثنا هو استنتاجاتنا والأهمية التي نوليها لهذا التقسيم المرحلي). إشارات لينين المختلفة طوال ثورة أكتوبر دليل على أنه كان يأخذ بنظر الاعتبار مثل هذا التقسيم في خصائص وسمات ووظائف دكتاتورية البروليتاريا:
"المهمة
الأولى لكل حزب يتطلع للمستقبل هي إقناع الجماهير بصحة برنامجه وتكتيكاته. هذه
المهمة هي في صدر المهام سواء في مرحلة القيصرية أو في مرحلة سياسة المساومة
التي اتخذها التسيرتليون والتشرنوفيون مع الكرنسكيين والكيشكيين. وقد تحققت هذه
المهمة اليوم، لأن ما أثبته مؤتمر المجالس (السوفيتات) في موسكو بشكل قاطع هو
أن أكثرية العمال والفلاحين قد اتخذوا بوضوح جانب البلاشفة. ولكن، بالطبع،
مازال هناك طريق طويل لانجاز هذه الوظيفة بشكل تام. والواقع هو أن إزالة خطر السقوط عن دولة المجالس وإحباط الإجراءات العسكرية والتآمرية البرجوازية، الداخلية والدولية على حد سواء، من أجل إسقاط هذه الدولة استمر لفترة أطول من الفترة بين تشرين الأول (أكتوبر) ١٩١٧ وشباط ١٩١٨. والنقطة الواضحة هي أن بعد تحقيق المهمة "الثانية" (أو أول مهمة بعد كسب السلطة)، كان ينبغي على دكتاتورية البروليتاريا وضع شيء أكثر من "إدارة شؤون" روسيا في صدر الأولويات وقد وضعته. ولكن في كل الأحوال فإن هذه الصيغة أي التمييز في المهام الموضوعة في المقدمة بالتسلسل وبمعزل عن إرادة الحزب الطليعي للطبقة العاملة، وتقسيمها الى نوعين "قمع مقاومة المستغلِّين" و"إدارة الشؤون"، تتطابق في الواقع مع الوصف الذي قدمناه في التقسيم المرحلي. المرحلة الأولى مرحلة التي ترسخ فيها البروليتاريا سلطتها دون تردد وسؤال وهزيمة البرجوازية تماماً في المعركة النضالية والمرحلة الثانية، مرحلة "الإدارة" أو بالمعنى الأكثر شمولاً مرحلة تنظيم المجتمع وفقاً لسلطة البروليتاريا السياسية، أو المرحلة الانتقالية بمعاني الكلمة الأوسع نطاقاً، الاقتصادية، الاجتماعية والثقافية. وانتبهوا الى أن هذه "الأولوية" في المهام ليست حصيلة الاختيار الطوعي للحزب، بل حصيلة الواقع الذي تخلقه بالضرورة مقاومة البرجوازية وشدة ونوعية وأشكال هذه المقاومة. ويقدم لينين في نفس المقال صيغة أكثر كثافة وإيجازاً لهذا التقسيم المرحلي في دكتاتورية البروليتاريا:
"في
كل ثورة اشتراكية، وبعد أن تحل البروليتاريا مسألة الاستيلاء على السلطة
السياسية، وبالدرجة التي تحقق فيها مهمة تجريد المستغلِّين من سلطتهم وقمع
مقاومتهم بشكل أساسي، تكون مهمة بناء نظام اجتماعي أرقى من الرأسمالية في
المقدمة. أي مهمة رفع مستوى إنتاجية العمل وتحقيق تنظيم أفضل للعمل بهذا الصدد
(ومن هذا المنظار). حكومتنا المجالسية، وبفضل الانتصار على المستغلِّين –من
كرينسكي الى كورنيلوف- هي بالضبط في مكانة تؤهلها لأن تخطو من أجل تحقيق هذه
المهمة ومعالجتها بجدية. وهنا تتضح على الفور نقطة معينة ألا وهي إذا تحقق
الاستيلاء على الحكومة المركزية في ظرف بضعة أيام، إذا أصبح ممكناً قمع
المقاومة العسكرية (والمخربة) للمستغلِّين حتى في أقصى مناطق البلاد في ظرف
أسابيع قليلة، فإن الحل الأساسي لمسألة رفع مستوى إنتاجية العمل لا يتطلب الشيء
الكثير". وهنا نتجاوز مجدداً النقطة التالية وهي أولاً هل تجاوزت فعلاً حكومة المجالس (السوفيتات) في نيسان ١٩١٨ المرحلة الأولى، أي مرحلة قمع المستغلِّين أو لا؟ وثانياً هل أن "رفع إنتاجية العمل" وفقط "من منظار"، "التنظيم الأفضل للعمل الاجتماعي" هو التعبير المناسب عن المهام "الاعتيادية" لدكتاتورية البروليتاريا او لا؟ إن النقطة الأساسية فعلاً بالنسبة لنا اهتمام لينين بالتقسيم المرحلي والتسلسل التاريخي للأولويات العملية ومهام دكتاتورية البروليتاريا. التقسيم المرحلي الذي كان يجب، باعتقادنا، أن يلعب من الناحية النظرية دوراً أكبر في التعبير عن آراء وتصورات البلاشفة فيما يتعلق بمهام وآفاق ثورة أكتوبر. إن أول استنتاجاتنا العملية من التأكيد على هذا التقسيم المرحلي في مرحلة دكتاتورية البروليتاريا، هو في الواقع، الدفاع عن الحكومة السوفيتية في مرحلة لينين مقابل النقاد "الديمقراطيين" لهذه الدولة. ثانياً، وبنفس الصدد، يمنحنا هذا التقسيم المرحلي الفرصة لأن نضع وجهات نظر وصيغ لينين في مرحلة ما بعد ثورة أكتوبر في سياقها التاريخي الواقعي وبالتالي دراسة رؤية ومنهج لينين العملي طوال هذه العملية بشكل أدق. ثالثاً، يقدم لنا هذا التقسيم المرحلي إمكانية فحص وتحليل بعض من نقاط الضعف الحاسمة في حركة البلاشفة والتي أدت، في خاتمة المطاف، الى نتائج غير مرغوب بها تماماً في مسار ثورة أكتوبر، ورابعاً، بناءاً على التقسيم المرحلي نكون قادرين على تقديم تصور أوضح نسبياً عن الاستراتيجية العملية للبروليتاريا بعد الاستيلاء على السلطة. الأمر المصيري من أجل تجب هزائم الثورات البروليتارية السابقة. وفي هذا البحث سوف لن أتناول هذه النقاط بالتفصيل، بل سأشير باختصار الى أبرز المطالب وأؤجل التوضيح الى فرص أخرى. وإذا ما نظرنا الى مؤلفات لينين بقليل من الدقة فإننا نرى مقاربتين مختلفتين لدكتاتورية البروليتاريا، أو بعبارة أخرى صيغتين مختلفتين لهذه الدولة. فإذا لم نأخذ بنظر الاعتبار التقسيم المرحلي موضع البحث، من الممكن أن تبدو هاتان الصيغتان متناقضتين. ولكن في ضوء تشخيص هذه المراحل يزول هذا التناقض أيضاً. فمن جانب يقال (ولينين نفسه أحد المنظرين لهذه الرؤية) أن دكتاتورية البروليتاريا هي الديمقراطية المباشرة والمنظمة الجماهيرية والبروليتارية. إذ يظهر أفراد الطبقة العاملة مباشرة في أجهزة السلطة الجماهيرية، في دور مشرع القوانين، منفذ القوانين والقاضي. وتفقد الدولة طابعها بمثابة قوة خاصة للقمع وتتحول الى تنظيم الطبقة العاملة كطبقة حاكمة والى منظمة عامة لإدارة المجتمع. وهذه التصور الذي قدمناه نحن بصورة موجزة ومكثفة في برنامج الحزب الشيوعي عن دكتاتورية البروليتاريا. ومن جانب آخر نحن نرى سواء في الأدبيات أو في ممارسة البلاشفة صياغات ومناهج تبدو، في الوهلة الأولى، مغايرة لهذه الصيغة من دكتاتورية البروليتاريا. على سبيل المثال فإن لينين نفسه يقول في النقاشات المتعلقة بإدارة الوحدات الإنتاجية وجدال لجان المعامل والنقابات حول السيطرة العمالية، أن دكتاتورية البروليتاريا يمكن أن تتجلى في "دكتاتورية الحزب" أو حتى "دكتاتورية فرد واحد". وفي الممارسة نرى أن لينين والبلاشفة، أي المدافعين عن ورافعي لواء نظرية دكتاتورية البروليتاريا الماركسية بوصفها ديمقراطية بروليتارية رفيعة المستوى، قد اتخذوا في حالات عديدة مواقف بصالح الإجراءات التي توسع من سيطرة الحزب ومجلس مفوضي الشعب والدولة بشكل كلي على اقتصاد وسياسة المجتمع، وذلك في مواجهة السيطرة وممارسة الإرادة المباشرة للجماهير والمؤسسات المنتخبة مباشرة منها من قبيل المجالس. ويفسر المؤرخون المقاربة الثانية ويردونها الى "تخلف روسيا" و"براغماتية" البلاشفة في حين يعتبر النقاد "الديمقرطيين" للبلاشفة ذلك "بداية البيروقراطية" و"نقض الأصول الماركسية". وقد غذت العبارات من النوع الثاني وما تبلور في الممارسة باتجاه بلورة سلطة مركزية للدولة تتجاوز الى حد ما ممارسة إرادة الجماهير العمالية المباشرة، حتى في عهد لينين نفسه، التيارات النقدية المختلفة التي تنتقد ثورة أكتوبر الاشتراكية من منظار "ديمقراطي". وقد شارك الشيوعيون المجالسيون، المعارضة العمالية وكتلة الديمقراطيين-المركزيين (في الاتحاد السوفيتي نفسه)، اليسار الجديد، التروتسكية، الأوروشيوعية، والأخرين، في هذا النقد للتجربة الروسية. إن التمييز بين هاتين المرحلتين المذكورتين أعلاه في عملية الثورة العمالية يوضح الى حد كبير أسباب هذه الصياغات البلشفية "المزدوجة" و"البراغماتية" ظاهرياً. والواقع هو أن القسم الأعظم من "مركزية" الدولة البروليتارية في أول سنوات الثورة وتلك الإجراءات الاقتصادية التي سميت خطأً "شيوعية الحرب" (وأيضاً ما تلاها وما عُرِفَ باسم السياسة الاقتصادية الجديدة)، هي إجراءات لا تتطابق مع دكتاتورية البروليتاريا بالمعنى الواسع والشامل للكلمة، بل تتطابق وتنسجم مع ضرورات تحقيق وتوطيد السلطة البروليتارية، أي "الدولة المؤقتة" لدكتاتورية البروليتاريا في روسيا. وبفضل ٧٠ عاماً من إعادة النظر، من الممكن اليوم، تصور "إجراءات أفضل" حتى ضمن نفس الإطار بالنسبة للبلاشفة، ولكن في كل الأحوال فإن ما تحقق عملياً هو الإجراءات السياسية، الإدارية والاقتصادية لدولة البروليتاريا المؤقتة الثورية، أي دكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الثورية، من أجل الحفاظ على وتوطيد السلطة السياسية للطبقة العاملة مقابل مقاومة ومؤامرات البرجوازية وليس الإجراءات التي تتطابق وتنسجم مع المهام والأهداف المحددة مسبقاً والمرجوة من دكتاتورية البروليتاريا بالمعنى الشامل للكلمة. نفس القوة التي تنظم الثورة وتجعل المجالس مقبولةً كـ"أمر واقع"، نفس القوة التي تأخذ على عاتقها قيادة القسم الطليعي للطبقة العاملة وتعتمد على هذا القسم، نفس القوة التي على الرغم من معارضة أقسام الطبقة العاملة الأخرى المتأثرة بالمناشفة والفلاحين المساندين للاشتراكيين الثوريين، طرحت فكرة نقل السلطة الى المجالس ومارست القوة لإسقاط الدولة البرجوازية والانتقال الفعلي للسلطة، نفس هذه القوة وجدت نفسها مضطرة وبحكم الظروف الموضوعية السياسية وبسبب طبيعتها الخاصة، في موضع قيادة عملية استمرار الثورة "من فوق" وقمع المقاومة المسلحة البرجوازية وعليها بنفس الدرجة من الحزم أخذ هذه المهمة على عاتقها. هذه هي سمة وطبيعة كل دولة ثورية مؤقتة واقعية والتي تكون تنظيم القسم الأكثر نشاطاً في الطبقات الثورية، أي الجماهير الثائرة بالفعل. هذا الانتظار "الديمقراطي" في أن تمتلك دكتاتورية البروليتاريا في ٨ شباط ١٩١٧ بناءاً وتركيبة ديمقراطية ومنتخبة وأن تكون التنظيم "الديمقراطي" للطبقة العاملة بمثابة طبقة سائدة، أي نفس ما وصفه ماركس ولينين، هو انتظار غير صحيح. وهذا فهم غير صحيح حين يتم التغافل فيه عن خصائص وسمات المرحلة الثورية وطبيعة الدولة الثورية الناجمة عن الانتفاضة في مثل هكذا مرحلة. في هذا النوع من "النقد" يتم تناسي الاختلاف بين خصائص دكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الثورية بعد الانتفاضة مباشرة، والدولة البروليتارية في أوضاع ما بعد توطيد السلطة العمالية. شرط استقرار الثانية هو تنظيم الأولى على أساس قدرة وطاقات أكثر أقسام الطبقة العاملة تقدماً من خلال الترابط بين صفوف الثورة قبل وبعد الانتفاضة. "الانتفاضة في عاصمتين" وذلك بمساعدة المجالس التي انعطفت للتو نحو المواقف البلشفية، ستجعل بطبيعة الحال من بروليتاريا "العاصمتين" والثوار البلاشفة المادة والمصدر الرئيسي لقوى الدولة الثورية المؤقتة وأركانها. ولا يمكن لممارسات وعمل هذه الدولة أن لا تكون استمراراً مباشراً للتقاليد والأساليب النضالية للقوى الثائرة. وإذا ما أدخلنا التقسيم المرحلي الوارد أعلاه في المرحلة الانتقالية في تحليلنا، حينذاك سنفهم سبب الازدواجية في صيغ لينين عن دكتاتورية البروليتاريا بشكل أفضل. تلك الصيغ التي تشير الى الحزب، والى المركزية وحتمية الإجراءات التي "تتجاوز" المؤسسات الديمقراطية وغير ذلك، تأخذ بنظر الاعتبار تماماً تلك "الدولة المؤقتة" وأوضاع المرحلة الثورية وخصوصاً مخاطر استعادة السلطة البرجوازية. والصيغ الأوسع نطاقاً وأساسية التي تصور دكتاتورية البروليتاريا عنصر الديمقراطية العمالية الواسعة تأخذ بنظر الاعتبار المعاني الأكثر شمولاً والأبعد نطاقاً لهذه الدكتاتورية بعد تحقيق وتوطيد سلطة البروليتاريا السياسية. نفس هذه الازدواجية في الصيغ نراها فيما يتعلق بالمهام الاقتصادية لدكتاتورية البروليتاريا أو الأوضاع الاقتصادية التي تتطابق وتنسجم مع دكتاتورية البروليتاريا. فمن جانب لدينا نق برنامج غوتا والصورة العامة عن المرحلة الدنيا من الشيوعية (أي الاشتراكية) وكذلك الأقوال العديدة المتشابهة للينين حول بناء "نظام اقتصادي أرقى من الرأسمالية"، ومن الجهة الأخرى لدينا الصيغ التي تخلق على سبيل المثال استنتاجات من نوع أن اقتصاد "المرحلة الانتقالية" يمكنه أن يكون "رأسمالية الدولة الاحتكارية". وهنا يتبدد الى حد كبير هذا الغموض من خلال التمييز بين مرحلتين في دكتاتورية البروليتاريا. في المرحلة الأولى حين يكون الاقتصاد من الناحية العملية، بحكم الظروف الموضوعية السياسية، جبهة خلفية سياسية وعاملاً للحفاظ على سلطة الدولة العمالية في عملية قمع البرجوازية، ومن الممكن قبول الأشكال المختلفة ومن ضمنها رأسمالية الدولة الاحتكارية أو حتى بديل المعارضة العمالية، بوصفها منهاجاً اقتصادياً يجب تطبيقه مؤقتاً في مصادرة ملكية المستغلِّين وإحلاله محل الملكية البرجوازية الملغاة. ولكن في المرحلة الثانية يجب البدء بجدية في تنظيم الاقتصاد المنسجم مع "تنظيم الطبقة العاملة بمثابة طبقة سائدة"، مع الديمقراطية المباشرة وآلية قرار العمال على مصيرهم الاقتصادي والسياسي من خلال المجالس، ومع التخطيط وفقاً للحاجات وغير ذلك. ومن غير شك أن شيوعية الحرب، السياسية الاقتصادية الجديدة ورأسمالية الدولة الاحتكارية لا يمكنها أن تكون ذلك الشيء الذي جعل ماركس في "نقد برنامج غوتا" يتجشم عناء توضيح الخطوط العامة لمرحلة المجتمع الشيوعي الأولى واعتبره لينين "النظام الاقتصادي الأرقى من الرأسمالية". ومن المؤسف أن هذا التقسيم المرحلي لدكتاتورية البروليتاريا لم يجرِ إظهاره والتنظير والدعاية له في نقاشات البلاشفة بالدرجة الكافية. والحقيقة هي أن لينين لم يعمِّر ولم يعش في الواقع حتى دخول الدولة البروليتارية الى المرحلة الثانية. ففي القسم الأساسي من دورة حياة لينين كانت دكتاتورية البروليتاريا تواجه بالفعل المخاطر السياسية والعسكرية من جانب البرجوازية وعلى أية حال لم تعدم البروليتاريا فقط فرصة بدء مرحلة "بناء" اقتصادي واجتماعي بشكل خاص، بل وأنها واجهت عملياً النتائج الاقتصادية للحرب العالمية مرحلة الحرب الداخلية التي خفضت المستوى الحقيقي للإنتاج والاستهلاك الى أقل مما كان عليه في روسيا عام ١٩١٣. وبوجود كل هذا قدم لينين شخصياً وكذلك بقية مفكري البلاشفة صيغاً لتوضيح إجراءات وخطوات السنوات الأولى للحكومة العمالية والأساليب التي فُرضَت على هذه الدولة في الميادين السياسية، الإدارية والاقتصادية، جرى تعميمها خطأً فيما يتعلق بخصائص وطبيعة دكتاتورية البروليتاريا بشكل كلي. وباعتقادي أن قسماً كبيراً من أعمال ومؤلفات لينين، إذا ما افترضنا ضرورة قرائتها، تحلل الإجراءات والخطوات الاضطرارية والعلاقات الإدارية المتطابقة مع مرحلة ثورية معينة. عدم إدخال لينين لوجهات نظره في عام ١٩٠٥ بشكل أكثر جدية وتجسيداً في تحليلاته المتعلقة بالاختلاف بين "الدولة الثورية المؤقتة" وبين "الدول التي ستنجز مهام الثورة بشكل عام"، وعدم استخدامه لنفس ذلك التمييز الذي نقلناه عنه فيما نقدم بوصفه مصدراً نظرياً بالغ الأهمية في تطبيق إستراتيجية أكثر انسجاماً من أجل مسيرة تكوين الدولة البروليتارية في روسيا، هو ناجم عن السياق التاريخي الذي تواجد فيه. أولاً، كانت "المرحلة الثانية لدكتاتورية البروليتاريا" يتم تصويرها عملياً في الفكر البلشفي في قلب ثورة عالمية ولذلك لم تحضَ بشكل عملي وبارز، إلا في الأعوام ١٩٢٤-١٩٢٦ بالاهتمام الجدي والتحليل الملموس في النقاشات المتعلقة بالاشتراكية في بلد واحد (وقد حصلت عملياً في الأعوام ١٩٢٤-١٩٢٦ على إجابة برجوازية). الأمل بثورة عالمية أدى الى أن يحدد البلاشفة أفقهم ويجعلوه قاصراً على "الحفاظ على السلطة" و"تحقيق الحد الأعلى الممكن" لحين نضج الثورة العالمية في المستقبل القريب ولم يولوا اهتماماً نظرياً يُذكر بمعضلة كيفية التحول الاجتماعي، الإداري والاقتصادي ضمن نطاق روسيا. (نفس هذا الأمر دليل آخر على حقيقة أن لينين كان يأخذ بنظر الاعتبار "المرحلة الأولى" في تعبيره عن وجهات نظره حول المضمون الاقتصادي والإداري لدكتاتورية البروليتاريا، خصوصاً وأنه يقدم صيغاً محدودة عن المسألة). ثانياً، ان من طبيعة الثوريين القيام بالأفعال في المرحلة الثورية بدلاً عن "التنظير". ففي مطالعة لآراء ووجهات نظر لينين في تلك المرحلة يجب الانتباه الى أنه بوصفه قائداً سياسياً كان بصدد تحقيق وإنجاز العمليات المطلوبة وإبعاد الميول والاتجاهات غير المرغوبة وبالتالي فإن خطاباته وأحاديثه ومقالاته ليست في كل الأحوال رسائل نظرية إيجابية، بل إنها في أغلب الحالات دفاع سياسي عن سياسات ومواقف عملية معينة. أساس جميع تلك التصريحات والبيانات فهم نظري ماركسي أصولي. وليس هناك من شك في ذلك. ولكن نفس تلك الخطابات والأحاديث والمقالات لا تقدم بحد ذاتها تعبيراً مفصلاً وإيجابياً عن هذه النظرية. على سبيل المثال الحكم القائل أن "الاشتراكية تعني الكهربة زائداً السلطة المجالسية" هي ليست صيغة وتعريف جديد للاشتراكية، بل نضال سياسي ودعائي من أجل بناء الاقتصاد الجديد. نضال عملي من اجل الاشتراكية. ولفهم رؤية لينين النظرية طوال هذه الفترة الحافلة بالاضطراب، يجب تحليل ودراسة تصريحاته وأعماله في سياق الظروف التاريخية الواقعية. وهنا أعتقد أن أية مطالعة وقراءة أدق لكتابات وأعمال لينين تؤكد دون أي غموض وإبهام وتبرهن على موقفه النظري المنسجم فيما يتعلق بخصائص وطبيعة الدولة البروليتارية في المراحل الثورية، حيث نقلنا هنا نماذج قليلة منه. وعلى أية حال فإن الافتقار الى صورة واضحة عن سير تطور دكتاتورية البروليتاريا ومرور هذه الدكتاتورية في مراحل مختلفة، تحول الى إحدى نقاط الضعف النظرية الجدية لدى البلاشفة في مواجهتهم للقضايا المقبلة للثورة البروليتارية. وسأشير فيما بعد الى هذه الحالات. إلا أنه من الضروري التأكيد على جملة من النقاط من أجل التصدي لبعض الغموض والإبهام والإشكالات المحتملة: أولاً: ما قلناه لا يعني أبداً أن دكتاتورية البروليتاريا ليست في مرحلتها الأولى "تنظيم الطبقة العاملة بمثابة طبقة سائدة"، بل بالعكس تماماً، حيث أن كل البحث يدور حول ضرورة التمييز بين الأشكال المختلفة لتنظيم البروليتاريا بمثابة طبقة سائدة في هاتين المرحلتين. فقد كانت دولة البلاشفة في روسيا دكتاتورية البروليتاريا وتنظيم الطبقة العاملة بمثابة طبقة سائدة، في المرحلة التي تؤسسها هذه الطبقة من أجل قمع مقاومة ومؤامرات الثورة البرجوازية المضادة. وهذا هو ذلك الشكل المحدد من تنظيم طبقة معينة حيث يكون ممكناً ومصيرياً من الناحية التاريخية. علاقة الطبقة بهذه الدولة لا تستند في الأساس على أية عملية انتخابية ومؤسسة تمثيلية، حتى لو صوّتت كل المجالس لهذه الحكومة، فإن الاعتبار الواقعي لهذه الحكومة والانتماء الواقعي لهذه الدولة الى الطبقة العاملة يترسخ من خلال التعبئة الواقعية للجماهير العمالية في مساندة ودعم هذه الدولة والانضواء تحت قيادتها من أجل القضاء التام على البرجوازية. وهذا النوع من العلاقة هو من نفس نوع العلاقة التي يقيمها الحزب الثوري مع الجماهير الغفيرة لطبقته. وفي المرحلة الأولى لدكتاتورية البروليتاريا لا يتحقق تصويت البروليتاريا لصالح دولتها من خلال المؤسسات التمثيلية، بل من خلال التعبئة والتنظيم العملي لكل الطبقة بالالتفاف حول هذه الدولة. ثانياً: الإشارة الى المحدوديات والخصائص "الحتمية" (ليس في التفاصيل) للدولة البروليتارية في المرحلة الثورية، لا يعني أبداً تبرير كل تلك الممارسات التي تبلورت في السنوات الأولى لثورة أكتوبر. وهذا لا يعني أيضاً التقليل من ضرورة وأهمية الفعل العمالي المباشر من خلال مؤسسات السلطة الجماهيرية في نفس المراحل. ومرة أخرى بالعكس، يقدم التمييز بين هاتين المرحلتين الفرصة لمعرفة والتأكيد على الأهمية الحقيقية للفعل الجماهيري المباشر والديمقراطية البروليتارية في كل مرحلة. وهدفنا هو التأكيد على حقانية الدور الذي قام به الحزب البلشفي مباشرة بعد ثورة أكتوبر في الدولة وهيئات ممارسة السلطة العمالية في روسيا. لقد كانت دولة لينين دولة دكتاتورية البروليتاريا. وبحثنا هو جزء من رد على الانتقادات الذهنية، والتكاملية والمثالية النابعة، بالدرجة الأساس، من منظار "ديمقراطي" لا من منظار اشتراكي الموجهة لممارسة وبراتيك البلاشفة في السنوات الأولى لثورة أكتوبر. التمييز بين هاتين المرحلتين يجعلنا نضع حدوداً فاصلة بيننا وبين ذلك النقد "الديمقراطي" والإمساك بأحد العناصر الأصلية لنقد اشتراكي للتجربة السوفيتية. وعلى أية حال سأشير في أخر البحث الى مسألة أهمية الديمقراطية ومؤسسات السلطة الديمقراطية للبروليتاريا في المرحلة الأولى. ثالثاً: لقد تحدثنا في هذا البحث عن الثورة البروليتارية "في بلد واحد". والمسألة هنا أن الثورة البروليتارية في بلد واحد، أي الاستيلاء على السلطة السياسية نفسها، عليها في مواصلة طريقها أن ترتبط بثورة عالمية ضد الرأسمال. تُرى ألا يخلق هذا تغييراً في "التقسيم المرحلي" لدكتاتورية البروليتاريا؟ بعبارة أخرى ألا يتناقض تصور بدء مرحلة ثانية في "بلد واحد" مع فكرة الأممية؟ ألا ينبغي على المرحلة الأولى من دكتاتورية البروليتاريا أن تجد استمرارها في خلق "مرحلة ثورية" على صعيد عالمي؟ إننا نتمنى أن يسير التاريخ الحقيقي هذه المرة بمثل هذا المسار، ولكن لا يمكن من الناحية النظرية إثبات أن انتصار البروليتاريا السياسي في بلد واحد سيكون، بالضرورة، أو بإرادة الدولة البروليتارية المشار إليها، مقترناً بالتزامن مع الثورة العالمية. لأن هذا لم يحدث عام ١٩١٧. على البروليتاريا أن تعرف مسار تطور حكومتها في بلد واحد. وبحثنا ليس متعلقاً بهذا الأمر. فبقدر تعلق الأمر بالثورة العالمية، يجب أن أذكر هذه الملاحظة وهي أنني أعتقد أن البروليتاريا القادرة، في الوقع، على بدء "المرحلة الثانية" في أقرب فرصة، أي البروليتاريا القادرة على الانتظام كطبقة سائدة على أساس الديمقراطية البروليتارية الواسعة النطاق والبدء بـ"تنظيم اقتصاد أرقى من الرأسمالية" ستكون حتماً عنصراً أكثر نشاطاً، أكثر تأثيراً وأشد رسوخاً في ساحة الصراع الأممي مع البرجوازية أكثر من الطبقة العاملة التي تجلس، بين فكي كماشة البرجوازية، التي تحافظ على حكومتها بإجراءاتها الاضطرارية الاقتصادية والإدارية وبفرض المصائب والويلات، "منتظرة الثورة العالمية". إن جعل "تنظيم الاقتصاد القومي" يحل في روسيا محل المهام الاقتصادية للبروليتاريا في المرحلة الانتقالية، لا ينبغي له أن يوصل أي ماركسي جدي الى الاستنتاج بأن التنظيم الثوري للمجتمع بعد الثورة في أبعاده الاقتصادية والإدارية يتعارض ويتناقض مع الأممية. لا ينبغي تحميل البروليتاريا مسؤولية البراتيك والممارسة البرجوازية. فلما كانت دكتاتورية البروليتاريا في بلد وأحد أكثر حزماً وأكثر شمولاً في إنجاز مهامها السياسية والاقتصادية، كلما إزدادت الإمكانية الواقعية لتحول هذه السلطة السياسية والاقتصادية الى مصدر من مصادر الثورة الأممية. وعلى أية حال فإن هذه المسألة هي خارج بحثنا الخاص المتعلق بالدولة البروليتارية في المرحلة الثورية. في ختام البحث من الضروري أن أشير الى الأهمية العملية لنقطة الضعف النظرية في التجربة الروسية. الافتقار الى صيغة واضحة عن المراحل المختلفة لتكوين وتطور دكتاتورية البروليتاريا، سواء في برنامج البلاشفة أو في التعاليم العامة للعمال الطليعيين والثوريين الروس في ثورة أكتوبر، هو أحد العناصر المهمة في غياب الاستعداد النظري الذي كان له دور في الفشل النهائي للثورة. أولاً، التنظير لأساليب الدولة "المؤقتة" الثورية في حالات معينة بصفتها أساليب دكتاتورية البروليتاريا الثورية بشكل عام. إذ قلما كان الطابع "المؤقت" لخصائص وعمل الدولة في الأوضاع الخاصة للسنوات الأولى بعد ثورة أكتوبر موضع انتباه واهتمام. وهذا ما أفسح المجال لنمو التحليلات الانتهازية والفوضوية داخل الحزب. وتحولت الانتهازية والبيروقراطية الى الشكل السائد في الرد على الميول والانتقادات الفوضوية النقابية، وفي المقابل تحولت الفوضوية النقابية والليبرالية الى الشكل السائد لانتقاد البيروقراطية والاتجاهات الإصلاحية. ولم يجري التعبير بوضوح وبقوة كافية عن الموقف اللينيني المبدئي النابع من الفهم الدقيق لمتطلبات وحاجات دكتاتورية البروليتاريا العاجلة مقابل هذين القطبين. على سبيل المثال لم يتم الدفاع عن ضرورة تقوية المركزية في الحزب، حتمية التطابق النسبي بين مهام الحزب والدولة والحاجة للتمركز والسرعة في اتخاذ القرار في مرحلة معينة مؤقتة، بشكل مبدئي وبصياغة الأفق الأرحب للثورة. هذه الأساليب وفي غياب التحليلات التي تعيد بشكل مبدئي الطابع المؤقت لهذه الإجراءات الى المراحل المختلفة من تطور المجتمع الروسي ومسار تحول دكتاتورية البروليتاريا من المرحلة الثورية الى مرحلة الاستقرار السياسي، جرى تعميمها بشكل اعتباطي وتحولت الى مبادئ لا تتغير الى حد ما. على سبيل المثال، في النقاشات المتعلقة بالسيطرة العمالية وإدارة الوحدات الإنتاجية، كان موقف البلاشفة المبدئي (في نقاطه الأساسية) مبني على تبعية المطالبة بالسيطرة العمالية من الأسفل لمبدأ الارتقاء بانسجام ومستوى ممارسة وسلطة الدولة العمالية في مرحلة الأزمة خلال السنوات ١٩١٧-١٩٢١، وقد تم التعبير عنه باستنتاجات منتقاة وصيغ غير مقنعة حيث أدى في التطبيق الى اغتراب ويأس قسم كبير من أكثر القادة العماليين طليعية وأكثرهم نشاطاً في لجان المعامل، أي اغتراب ويأس قسم من أفضل عناصر البروليتاريا الصناعية في روسيا من الحزب. ثانياً، لم تشخص الدولة البلشفية بمثابة دولة دكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الثورية، الظروف المادية والعملية لانتقال كافة السلطات الى المجالس ومؤسسات السلطة الجماهيرية. وفي حالة وضوح الاختلاف بين المرحلة الثورية ومرحلة الاستقرار والثبات وخصائص وطبيعة الحكومة العمالية في هذه المراحل، فإن عملية التنظيم الواسع للهيئات الجماهيرية والأهم من ذلك تقوية دورها يومياً في صناعة القرار (بعكس المسار الواقعي الموجود) كان يمكن ويجب دفعها بجدية الى الأمام في نفس المرحلة الأولى لدكتاتورية البروليتاريا. وحين هزمت الدولة العمالية عملياً سلطة البرجوازية الداخلية والدولية وتحولت في الأعوام ١٩٢٣-١٩٢٨ الى الموضوع الأساسي حول المسائل الاقتصادية والإدارية لدكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الجديدة، أي حين وصلت الدولة الثورية فعلاً الى نهاية المرحلة الثورية بالمعنى المحدود للكلمة، جرى إبعاد الهيئات الراسخة لدكتاتورية البروليتاريا، المجالس والجماهير الغفيرة للعمال الطليعيين والثوريين بشكل عملي عن ميدان التدخل النشط والمباشر في عملية القرار على مصير المجتمع السياسي والاقتصادي. وقد عجز البلاشفة في ظل غياب فهم واضح ومصاغ بدقة بالدرجة الكافية لديهم بخصوص الطابعالانتقالي لمهامهم فيما يتعلق بإقامة دكتاتورية البروليتاريا بالمعني الشامل والواسع للكلمة، عن البلورة الواعية والراسخة لبُنى وركائز ومؤسسات هذه الدولة وتمهيد سبل الانتقال من الدولة المؤقتة الى دولة دكتاتورية البروليتاريا الثابتة. البروليتاريا الروسية، وعلى العكس من البروليتاريا الفرنسية في القرن الماضي (القرن التاسع عشر-م) تمكنت على نحو ما ، وإن كان بشكل ناقص، من استكمال المرحلة الأولى من دكتاتوريتها، وأحبطت المقاومة البرجوازية العلنية، إلا أنها لم تعد نفسها لفترة ما بعد هذه المرحلة، وبالتالي خسرت المعركة في مواجهة الأشكال الجديدة من هجمة البورجوازية في الميادين الأيديولوجية، الاقتصادية، الإدارية، والثقافية. ثالثاً، (وهذا ما قد يكون من الناحية النظرية أهم جوانب المسألة)، الخلط بين اقتصاد المرحلة الثورية واقتصاد المرحلة الانتقالية بشكل كلي أدى الى فقدان الأفق الواضح والتحليل الدقيق للمهام الاقتصادية لدكتاتورية البروليتاريا بمثابة دولة المرحلة الانتقالية. وظل كلا الطرفين، سواء أولئك الذين سموا الأوضاع الموجودة والسياسية الاقتصادية الجديدة أوضاعاً وسياسةً في مسار بناء الاشتراكية (ستالين وبوخارين) أو أولئك الذين أكدوا على الطابع الرأسمالي والمؤقت لهذه الإجراءات والخطوات (زينوفيف وكروبسكايا والآخرين)، عاجزين عملياً عن تعريف المهام الاقتصادية الثورية الخاصة بدكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الانتقالية. وسواء كانت البرجوازية القومية الاقتصادية والصناعية التي بدأت وأنجزت تحت تسمية الاشتراكية في بلد واحد من قبل أغلبية الحزب وبقيادة تيار ستالين عملية جعل الرأسمالية صناعية في روسيا بالمعني الواقعي للكلمة، أو تيار المعارضة الموحدة (تروتسكي-زينوفيف) التي كانت تنطلق من نفس المواقف الاقتصادية والتي كانت تخفي غياب بديلها في هذه الميدان تحت ستار شعار الثورة العالمية، ظهر وازدهر كلاهما في ظل فراغ نظري ناجم عن فقدان نظرية لينينية واضحة ومتناسقة ومنسجمة حول المهام الاقتصادية البعيدة المدى لدكتاتورية البروليتاريا. عدم وجود مثل هذه النظرية أو على أية حال عدم تحولها الى قوة مادية، وعدم تمثيل اللينينية في المناقشات الاقتصادية لأعوام ١٩٢٤-١٩٢٨، كان ناجماً الى حد كبير عن عدم وضع أفق الانتقال من دكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الثورية، التي يكون الاقتصاد فيها تابعاً للسياسة، الى دولة دكتاتورية البروليتاريا بالمعنى الشامل والواسع للكلمة التي تأخذ على عاتقها مهمة بناء "اقتصاد أرقى من الرأسمالية" أمام الطليعة الواعية للطبقة العاملة الروسية. وكما تمت الإشارة إليه فإن لينين كان يعرف الاختلاف بين هذه المراحل المختلفة وكان قد أشار إليه أيضاً لمرات عديدة في نفس ثورة أكتوبر على هامش المناقشات الأخرى. إلا أن المناقشات الحاسمة لأعوام ١٩٢٤-١٩٢٨ بقيت محرومة من أكثر القيادات النظرية للبروليتاريا قدرة في القرن الحالي. لو كان لينين موجوداً لكان من المحتمل جداً والأقرب الى اليقين أننا امتلكنا تصوراً أكثر وضوحاً فيما يتعلق بالمهام الاقتصادية لدكتاتورية البروليتاريا. ذلك أن مناقشات الأعوام ١٩٢٤-١٩٢٨ كانت بالضبط مناقشات جرت في فترة انتقال دكتاتورية البروليتاريا من المرحلة الثورية الى مرحلة الاستقرار والممارسة "الاعتيادية".
وأخيرا ينبغي الإجابة على سؤال واحد. إذا كان الاختلاف في مهام، طبيعة وسمات
دكتاتورية البروليتاريا في المرحلة الثورية بالمقارنة مع المرحلة التالية لها،
هو أمر لا مفر منه، وطبيعي ومقبول، ما الضمانة الموجودة، أو التي يمكن أن توجد،
على أن هذه الدولة المؤقتة البروليتارية، بأساليبها ومحدودياتها الخاصة بها،
ستترك مكانها لدكتاتورية البروليتاريا بالمعنى الشامل للكلمة؟ والجواب هو أن
الضمانة الفعلية لهذه العملية، مثلها مثل ضمانة أي تحول ثوري آخر، مرهونة
تماماً بالممارسة الثورية للقسم الطليعي والواعي للطبقة العاملة. وما يُطرح هنا
هو أن امتلاك أفق سياسي واضح وفهم دقيق لآليات تطور الثورة والمراحل الموضوعية
التي تضطر الثورة العمالية المرور بها، ولو بأشكال مختلفة وبسهولة ومشقة نسبية،
هو الشرط الأساسي للممارسة العملية الدقيقة و"الضامنة". وإذا كان فهم الاختلاف
بين هذين الشكلين المتمايزين لتجسد ومادية دكتاتورية البروليتاريا لا يضمن، ولن
يضمن، بحد ذاته، أي شيء فيما يتعلق بالانتقال الناجح والموفق من هذه المراحل،
فإن عدم فهمه يكون بالتأكيد ضمانة فشله. البروليتاريا التي نُزع سلاحها
مقابل البرجوازية القومية في الأعوام ١٩٢٤-١٩٢٨ في روسيا والتي هُزمت تماماً في
العقد التالي، كان لديها الكثير من النقص النظري والعملي المتعدد الجوانب. وكان
واحد من أوجه النقص فقدان تصور اقتصادي، إداري وسياسي عن دكتاتورية
البروليتاريا بعد إحباط المقاومة البرجوازية العلنية.
بوسع هذا الفهم أن يتبلور فقط حين تعرف البروليتاريا بوضوح الطابع المؤقت لذلك
الشكل من الحكومة التي جسدت فيها الى ذلك الحين دكتاتوريتها الطبقية وكانت قد
أعدت نفسها مسبقاً لاستبدالها بالأشكال المناسبة للمرحلة الجديدة.
مسألة الدولة في المراحل الثورية هي زاوية ضئيلة من ميدان واسع يجب دراسته
وتحليله من أجل تجنب الهزائم السابقة. وبحثنا بهذا الخصوص هو محاولة فقط لطرح
والتعريف بهذه المسألة بوصفها معضلة نظرية مهمة.
|