بصدد أوضاع الشرق الأوسط (تم اعداد هذا المقال استناداً الى الندوة التي قدمت تحت العنوان ذاته في 27 شباط 2016 على هامش المؤتمر الثامن للحزب الشيوعي العمالي الإيراني- الحكمتي (الخط الرسمي) ) امان كفا ان المحاور الأساسية للنقاشات والتحليلات التي تطرح بخصوص الشرق الأوسط تتضمن عموماً قضايا من قبيل سياسة أمريكا، سياسة روسيا، وبعضها خلافات دول المنطقة مثل إيران والسعودية. انه لأمر مسلم به هو انه لا يمكن ابداء الراي تجاه الشرق الأوسط ولا تأخذ هذه العناصر بنظر الاعتبار بدرجات تقل او تزيد. ان هذه العناصر، وان كانت مرتبطة بهذه الأوضاع، ولكن لا يعبر كل منها بذاته سوى جانب من حقيقة وواقع أكبر. وبقدر الارتباط بإطار الموضوع، ثمة نقطة تحوز على أهمية الا وهي الابتعاد عن ظاهر الأمور في الوهلة الأولى. ان هذا تراه في أكثر التقارير المتداولة في الاعلام الراهن والتي تسعى الى تصوير سوريا بوصفها المصدر الأساسي لمجمل قضايا الشرق الأوسط. كما لو ان الحرب في الشرق الأوسط، اتساع نطاق الإرهاب، غياب الأمان، التشرد والنزوح والامواج الهائلة للهاربين من الحرب، "تدخل" او "انتهازية" اوربا، "صراع إيران والسعودية"، ابتعاد او قرب تركيا من كل منهما، وغيرها وغيرها قد ولدت جميعها مع حرب وأزمة سوريا. كما لو ان أوضاع الشرق الأوسط قد ظهرت مرة واحدة وبدون أي خلفية وتاريخ، ليس في العالم المعاصر، بل في فراغ وامر غير مرتقب ودون أي دعم قد وصلت لهذا الحال والوضعية. وبالنتيجة تقترن مجمل أساس مشكلة الشرق الأوسط باسم سورية وسورية فقط! اي إن لم تكن هذه "المشكلة"، لم يكن هناك جهنم لملايين الناس في الشرق الأوسط. ولهذا، فان وضع سوريا بوصفها نقطة انطلاق الوضع القائم، ينبغي البحث عن الرد وسبيل الخروج من هذه الأوضاع و"حل ازمة الشرق الأوسط" في إيجاد حل لمعضلة سوريا. مثلما تحدثنا سابقاً، ان بقاء الأسد على راس الحكومة او عدم بقائه، او حتى الصراعات ما بين دول الشرق الأوسط، ليست هي نقطة انطلاق او أساس المعضلات الراهنة في الشرق الأوسط، بل انها فقط تجلي لتناقضات يكمن أساسها وجذرها في الازمة الراهنة للرأسمالية العالمية. ان "ازمة سوريا" و"غياب الأمن في الشرق الأوسط" هما انعكاس لوضعية كل الأقطاب الرأسمالية العالمية ومنافسات الامبريالية السائدة في العالم المعاصر. ونظرا للأوضاع الجسيمة، ينبغي الإشارة الى خلفية النقاط الحاسمة في هذه المرحلة. في النصف الأول من القرن السابق، لقد تم الرد على التناقضات والاختلافات ما بين الدول المترو بولية، بوصفها ممثلة للرساميل الامبريالية، بحرب عالمية. وتحديداً بعد الحرب العالمية الثانية، وتقسيم العالم والاثار الناجمة عن الاتفاقات العنفية والاساس الذي أقيم عليه العالم، نشأ توازن بين الرساميل الامبريالية. برز هذا التوازن على هيئة حرب باردة وتجابه الغرب والشرق، وهيئة تجابه أنماط اقتصادية وسياسية محددة. تركت كتلتا الشرق والغرب، برايات أيديولوجية مختلفة، بأنظمة سياسية مختلفة، وبنماذج اقتصادية مختلفة، طابعهما على الملامح الاجتماعية-السياسية والاقتصادية والجغرافيا السياسية والاقتصادية للعالم. ان ما هو معروف باسم النموذج الشرقي (رأسمالية الدولة) والغربي (السوق الحر) هما أنماط ونماذج حددت التطور والنمو الرأسمالي لعدة عقود. وبغض النظر عن الاشكال المتنوعة التي خلعتها الحكومات المختلفة والرساميل على نفسها في تلك المرحلة، فقد أرسي توازن ما بين كتلتين أساسيتين للرأسمالية على الصعيد العالمي. وقد كان معروفاً أي زاوية من هذا العالم تنتمي الى مكان نفوذ أي من هذين المعسكرين الأساسيين واي مناطق لم تكن محسومة المصير وغير ذلك. على النقيض من إيران التي هي ضمن نطاق نفوذ الرأسمال الغربي وامريكا تحديداً، أصبح الشرق الأوسط منطقة مهمة لم تقع بصورة كاملة وتامة في نطاق نفوذ أي من القطبين. ثمة عوامل كثيرة لعبت دورا بهذا الخصوص. الرأسمالية الوليدة حديثا في بلدان هذه المنطقة، وبعضها بصلات قبلية داخلها، وكذلك شركات نظمت نفوذها في هذه المنطقة عبر دول امبريالية، هي من بين تلك العوامل التي مكنت في تلك الأوضاع من إرساء دولة إسرائيل في تلك المنطقة، وان هذه الأوضاع تغيرت اليوم الى حد كبير، اذ لا يمكن مقارنة البرجوازية العربية، الطبقة العاملة والعلاقات الرأسمالية الراهنة بتلك المرحلة. بعد عقد تقريبا من الازمة الكبيرة لعقد السبعينات من القرن المنصرم (التي أدت امتداداً لها الى البلدان التي هي تحت نفوذ الرساميل الامبريالية، وأدت بعض الاحيان الى الثورة في إيران)، فان النمط الروسي لرأسمالية الدولة قد انهزم امام نمط السوق الحر الغربي. ان تفاصيل هذه الهزيمة، تكمن اساساً في عجز الشرق عن المنافسة على الصعيد التكنولوجي، العسكري وحرب النجوم التي كانت أمريكا زعيمها، والتي تجسدت وبرزت في انهيار جدار برلين هي ليست موضوع هذا البحث. ولكن ما له أهمية هو تعريف النمط الغربي للسوق الحر، وبموازاته الديمقراطية الغربية المرفوعة الراس، بوصفه نمط سياسي-اقتصادي أفضل. مع الحملة الأولى لأمريكا على العراق وإعلان استراتيجية اطلقت عليها "النظام العالمي الجديد"، انهمكت مجمل الماكنة الدعائية الهائلة للبرجوازية في رسم تصوير عالم احادي القطب تؤمن فيه الديمقراطية الغربية ونمط السوق الحر بقيادة أمريكا ودورها كشرطي، امان وتحسين حياة جماهير العالم. اما في العالم الواقعي، فان عالم احادي القطب كان امراً عابراً وقصير الأمد، وكان واضحاً ان الاجنحة المختلفة للرأسمالية الامبريالية التي يبحث كل منها عن حصته في هذا السوق لن تقبل بزعامة أمريكا. بالإضافة الى الإخفاقات المتلاحقة لأمريكا، بينت بوضوح عجز الغرب وأمريكا تحديداً. بيد ان صراع الأقطاب الإمبريالية في عملية هذه الهزائم، مثلما هو الحال بالضبط مع صعود النظام العالمي الجديد، لم يحدث في غرف مفاوضات الدول او في دهاليز وقاعات اجتماعات الأمم المتحدة، بل في الشرق الأوسط وعبر قناة إراقة الدماء وتدمير حياة الملايين في هذه المنطقة، عبر التفجيرات والقتل اليومي في الشرق الأوسط، عبر إرساء وتنظيم اشكال وأنواع من اقسام القوى الاثنية والقومية والدينية المفرطة الرجعية وسيادة سيناريو مظلم في مجمل المنطقة. أصبحت حياة ملايين البشر ومصير الشرق الأوسط مادة واساس حل التناقضات والصراعات ما بين الأقطاب الامبريالية. زد على ذلك، ان أي من الأقطاب الامبريالية غير قادر على طرح حل لبلوغ توزان مبعث اتفاق الرأسمالية سواء على الصعيد العالمي او المحلي على السواء. في الوقت ذاته، عجزت أي من طروحات الدول المنهمكة في هذا الصراع من طرح افق تحسين الأوضاع امام جماهير هذه المنطقة. افق يحسّن على الأقل من الوضعية التي لا تطاق لحياة الكثير من جماهير بلدان تلك المنطقة، وليس فقط ان تقوم بنفخ جيوب المسؤولين التقليديين من بيع النفط. عجزت عن طرح سبيل حل للمعضلة القديمة للجماهير العربية امام قسر وعنف دولة إسرائيل. ان هزيمة الغرب وعلى راسه أمريكا في العراق، هزيمة النظام العالمي الجديد وانعدام الأفق هذا والسمعة المتدنية للدول الرجعية للمنطقة التي شاركت جميعا في عملية النظام الجديد وركبت موجته مع أمريكا وحلفائها، كانت من العوامل الحاسمة في التأجيج الواسع للاحتجاجات العامة في مرحلة "الربيع العربي". اذ لا تنتظر الجماهير في مصر، تونس وبعدها ليبيا وسوريا بلوغ الصراعات بين الرجعية العالمية والرجعية المحلية حول حصتها من الشرق الأوسط. الخطر الذي دفع بعد "ثورة مصر" الدول الامبريالية للتفكير بالسيطرة والتحكم و"التدخل الفعال" في المنطقة. ليس أمريكا فحسب، بل ان وضعية الأقطاب الامبريالية الأخرى هي مضطربة بدرجات. بموازاة مجمل تناقضاتها ومنافساتها الداخلية، فان اوربا، وعبر تدخلاتها السياسية والعسكرية، من ضمنها ليبيا، بينت عن عجزها عن طرح نموذج يمكن ان تقبله حتى البلدان العربية. تواجه اليابان مشكلات اقتصادية متواصلة وتسعى فقط لحصول على حصة ما في المنافسات العالمية. كما تواجه روسيا مشكلات اقتصادية وسياسية عديدة حولها في البلدان التي في نطاقها. وعلى الرغم من الرساميل الهائلة والنمط الاقتصادي المتمثل بالعمالة الرخيصة وعديمة الحقوق، ليست الصين قادرة على خلق توازن بهذا السياق والخصوص. في ظل فراغ في توازن الاقطاب الامبريالية، يتم التعامل بصورة براغماتية مع أي تحول او تطور في أوضاع المنطقة واي تغير في مناطق نفوذ الأقطاب الرأسمالية. أدى هذا الى غياب سياسة واضحة للشرق الأوسط، وطالما اذعن المسؤولون المختلفين للرأسمال ومؤسساته بهذا الامر مرات ومرات. على سبيل المثال، لقد تأسست داعش عبر الدعم الوثيق للغرب وتحديداً الولايات المتحدة والسعودية وتركيا. قوة تهدف الى تقليص نفوذ روسيا في المنطقة وتوسيع نفوذ السعودية امام إيران من جهة، ومن جهة أخرى إرساء سيناريو مظلم بوصفه نتيجة الاحتجاج العام للجماهير ضد الحكومات الرجعية في المنطقة. ولكن، ونتيجة السياسة البراغماتية للغرب وبالأخص مع تغير سياسة أمريكا في الشرق الأوسط، تحولت عمليا الى قوة زائدة ومنافسة، بحد بحيث ان صناع وخالقي داعش اليوم يتحالفون مع منافسيها في المنطقة ضدها! ان غياب السياسة هذه عند الغرب هو الذي وفر الفرصة لروسيا لحضورها العسكري في المنطقة دفاعاً عن منطقة نفوذها. ان انعكاس هذه المسالة جعلت سياسة الدول الحاكمة في المنطقة واتحاداتها واختلافات براغماتية بالدرجة ذاتها. اذ تقف إيران والسعودية ضد بعض في ميدان ما، وفي الوقت ذاته يقفون جنب بعض امام هبوط أسعار النفط! مع الاخذ بنظر الاعتبار مثل هذه الخلفية، فان تطلع "الرد هو سوريا" بعلى لجريمة التي ترتكب اليوم في المنطقة وخصوصاً في سوريا هو امر ساذج. وجراء التشتت والتخبط والتيه السياسي-الاقتصادي للإمبريالية العالمية، فتح الباب واسعاً امام اشكال وأنواع من القوى الرجعية، سواء الحكومية او الجماعات والعصابات "غير الرسمية"، فُتِحَ بدرجة يجعل من إمكانية الرد عبر سبل الحل المعروفة والتقليدية في هذه المنطقة امراً مستحيلاً. في الوقت ذاته، تزيد ادامة هذه الأوضاع من عملية تشكيل الجماعات والعصابات الاثنية والقومية والدينية الى حد كبير. كل الرجعية الحاكمة والسائدة في المنطقة ذا مصلحة في استمرار هذه الأوضاع. على هذا الأساس، ومع وجود هذا التيه داخل الامبرياليين وكذلك عجز حكومات بلدان هذه المنطقة عن إرساء الحد الأدنى من الأمان والرفاه، لن يكون هناك سبيل حل فوري. ولهذا ترسف حياة الملايين في الشرق الأوسط في اسر. بالإضافة الى ذلك، عمقت الموجة الواسعة للمهجرين والمشردين من أرضية الدفع بالسياسات الرجعية للإمبريالية عبر إشاعة التفرقة الاثنية والقومية والدينية واعمال التجنيد الاجباري من جهة والتنامي المتعاظم للقوى الاثنية والقومية والدينية من جهة أخرى. اعاد هذا الوضع نفسه تعريف الجماهير العربية ليس امام إسرائيل هذه المرة، بل على الصعيد العالمي. اذ ان اقتران الجماهير العربية بـ ”المسلمين الإرهابيين" غدا قسم من هويتهم في انظار العالم، ويمد هذا يد العون للبرجوازية في إمكانية اخضاع جماهير هذه المنطقة. ان ما ثبتته عبر الحروب الكارثية والمدمرة، الإرهاب والقمع الواسع في الشرق الأقصى، يجري اليوم عبر هذا الطريق في الشرق الأوسط. ان هذه هي النسخة المقبولة لدى الرساميل البرجوازية الامبريالية التي تتعقبها في هذه المنطقة عبر تواجد القوى المسلحة والعصابات الرجعية. في الوقت ذاته، ان تلازم القوى الرجعية، اليوم أكثر من أي وقت مضى، بين الهزالة والخواء التامين للدول الحاكمة في المنطقة. في غضون هذه المرحلة، تبينت حقيقة سذاجة أي انتظار وتطلع وافق تحسن الأوضاع على يد هذه الحكومات، سواء في إيران او مصر. ان موجة هروب أناس هذه الدول، لا لدول الجوار، هي دليل على عدم الثقة بالحكومات السائدة في المنطقة وعلى هزالتها. تسعى البرجوازية وحكوماتها ودولها في المنطقة الى الدفع بمكانتها في المنطقة عبر الماسي والضغوطات على اغلبية المجتمع، وتبيان وتصوير نفسها بوصفها العنصر الأساسي في خلق الاستقرار. في الوقت ذاته، تسعى عبر تعميق الحقد على منافسيها الاخرين في المنطقة، العرب والعجم، الاتراك والاكراد، الشيعة والسنة.... الى إشاعة الفرقة وتلويث أي درجة من الاحاسيس الإنسانية او الإحساس بالمصير المشترك لمجمل كادحي وعمال بلدان هذه المنطقة. وعبر إرساء سيناريو مظلم لجماهير المنطقة، بوسع البرجوازية، على المدى القريب من إشاعة الفرقة القومية والاثنية والدينية، لكن في الوقت ذاته، مع وضع مجمل الرجعية في المنطقة، بالرغم من صراعاتهم ونزاعاتهم، امام الجماهير التي هي الضحايا الأساسيين للحروب والإرهاب وانعدام الأمان السائد في المنطقة، يخلق أرضية للاتحاد الاوسع على هذا الرجعية قاطبة، ويعاظم من إمكانية التقارب والاحساس المتعاظم بالمصير المشترك بين الطبقة العاملة والقوى التقدمية في هذه المنطقة. فاليوم ليست فلسطين فحسب، بل الجماهير والطبقة العاملة في العراق ومصر وتونس وليبيا والعراق وسوريا، تقف كلها في هذه العملية أكثر من أي وقت اخر في جبهة واحدة وضحية السياسات الرجعية لحكومات المنطقة والرجعية الامبريالية، بوصفهم يشتركون في مصير واحد. إذا كانت هذه اللوحة واضحة بصورة محسوسة في البلدان العربية، بيد ان نطاقها أوسع، وتشمل إيران وجماهير أفغانستان القاطنة في إيران كذلك. وتتمثل مهمتنا اليوم نحن الشيوعيين أكثر من أي وقت اخر بتوسيع وإرساء أكثر ما يمكن من الصلة واشتراك طبقتنا في مصالحها والاتحاد ضد كل معسكر الرجعية، ضد كل اشكال التفرقة الاثنية والقومية والدينية. بوسع الشيوعيون والطبقة العاملة، بل وينبغي عليهم، ان يلعبوا دوراً مهما وحاسماً ضد الإيقاع بالجماهير وجرها نحو الحروب. في هذه المرحلة، توسيع الصلات، الفكر المشترك، تقارب الشيوعيين والمنظمات العمالية في المنطقة، الدور والمكانة الخاصة في تنظيم قوة الدفاع عن النفس ضد كل معسكر الرجعية وعدم رهن الأنظار وانتظار ما فوق ذا أهمية خاصة. ان فقط مناهضة الحرب اليوم والتطلع الى سلام من فوق (سلام القوى الخالقة لهذه الأوضاع) وعبر اتفاقات القوى الرجعية هو لعب في ميدان شيدته الرجعية هذه نفسها لضحاياها. ان تنظيم قوى الدفاع عن الجماهير بوجه الجريمة التي ترتكب يوميا في المنطقة هو قسم مهم من مهام الشيوعيين في مجمل هذه المنطقة. ان الدفع بهذا الامر يتطلب دون شك الوقوف المشترك للقوى المنهمكة والشيوعيين في المنطقة. انها اهم مهمة لنا اليوم. ترجمة: ف. محمود
|