العالم ما بعد ١١ ايلول 
الجزء الاول : حرب الارهابيين

 

قطبان رجعيان

ان الجريمة الارهابية المروعة في ١١ ايلول ٢٠٠١ ضد البشرية و قتل الآلاف من اناس ابرياء في امريكا، وضع العالم على حافة احلك مرحلة و اكثرها دموية في تاريخه المعاصر. ما تصفه الهيئة الحاكمة في امريكا بحرب عالمية ضد الارهاب هي في الحقيقة دخول العالم في طور جديدو مدمر من الحرب العالمية بين الاارهابيين.

يقف في الطرفين المعاكسين لهذا الصراع المعادي للانسان، المعسكرين الاصليين للارهاب اللذين ترك اثرهما الدموي على حياة جيلين من سكان عالمنا. في احد القطبين تقف اعضم ماكينة ارهاب الدولة والابتزاز و الارعاب العالمي. يتضمن هذا القطب الهيئة الحاكمة و دولة امريكا، القوة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووي ضد الانسان محولة خلال ثوان مئات الالوف من سكان هيروشيما وناكازاكي الابرياء الى رماد. الدولة التي قتلت الملايين من الفيتناميين وقصفت ودمرت اراضيهم بالسلاح الكيمياوي واحرقتها طوال سنوات عديدة. يتضمن هذا القطب حلف شمال الاطلسي واءتلاف الدول الغربية التي دمرت المدارس والبيوت و المستشفيات على رؤوس الناس من العراق الى يوغوسلافيا وسلبت الخبز و الدواء من ملايين الاطفال. انها البرجوازية وحكومة اسرائيل، التي تحتل، تسلب، تقتتل و تعدم الناس. تقصف مجمعات اللاجئين بالقنابل و الصواريخ وتقتل اطفالا مذعورين في عمر عشر سنوات في احضان اباءهم وامام ابواب المدارس. من هيروشيما و فيتناام الى كرانادا والعراق، من ساحات الاعدام في اندنوسيا وشيلي الى مذابح فلسطين كلهاممارسات وملف هذا القطب العالمي لارهاب الدولة والارعاب الامبريالي البين و الغير قابل للانكار الذي يراه العالم باسره.

في القطب المقابل، يقف الارهاب الاسلامي و الحركة الرجعية والقذرة للاسلام السياسي. هذه القوى التي كانت في حينها من خليقة وتربية امريكا و الغرب في الحرب الباردة واداة تنظيم الرجعية المحلية بوجه اليسار في مجتمعات شرق الاوسط، تحولت الان الى قطب عالمي نشط للارهاب واحد منافسي حرب البرجوازية على السلطة في شرق الاوسط. ان التاريخ الدموي و المعادي للانسان للاسلام السياسي، من ايران و افغانستان وباكستان، الى الجزائر، وفلسطين تشمل قائمة طويلة من التصفيات ا لجماعية والجرائم المروعة. من المجازر الحكومية وشبه الحكومية في ايران و افغانستان، الى الجرائم اليومية لجماعات الارهاب الاسلامي في اسرائيل والجزائر وقلب اوروبا وامريكا، من القمع الدموي لمخالفيهم الفكريين والسياسيين، الى قرض القوانين الرجعية والمعادية للانسان على الناس وبالاخص على المراة، من قطع الروؤس و قطع الايدي، الى زرع القنابل والقتل والابادة في الباصات و المقاهي والديسكوهات هي سجل ممارسات هؤلاء الرجعيين.

في الوقت الحاضر، من المقرر ان يؤودي هذا الصراع بحياة مئات الالاف، ومن المحتمل بالملايين من الضحايا الآخرين غدا في افعانستان و بعد غد في اية زاوية من العالم. يجب الوقوف بوجه هذا
 

الدعاية الحربية ؟

بموازة هذا الاصططاف العسكري، نرى اصططافا ايديولوجيا و دعائيا للمعسكرين. ان اختراق وكسر هذا الجدار الدعائي واستنباط الحقائق من وراء هذه الموجة الكبيرة من النفاق والاكاديب التي تغمر العالم، هو الشرط الاول لتنظيم صف مستقل، من البشرية المتطلعة الى الحرية، في مواجهة الحرب العالمية للارهابيين. ان راية المتطرفين من كلا المعسكرين بينة و قابلة للتميز من بعيد. ان العالم المعقد اليوم لا يعير اهتماما يذكر لهذه الافكار الفظة. ان التلويح بالاعلام و الجينكوئيزم الامريكية والغربية، العنصرية، وتفاهات " صراع الحضارات " وامثالها يمكن ان تكون لها تاثير على حواشي المجتمع الغربي فقط. ان القادة الامريكيين و الدول والاعلام الغربي يعرفون بان هذه الافكار والنظرات البدائية لا يكمنها ان تشكل الاطار الايديولوجي و الدعائي للصراع الذي بدت تخوضوه. في القطب المقابل كذلك، فان فكرة الجهاد الاسلامي، سفك الدماء دون تميز سواء في سبيل الله والدين ، او" لتحرير القدس " وتحرير اراضي الاسلام من براثين الصهيونيةوالامبريالية العالمية السفاحة، يمكنها ان تسري فقط في صفوف المتطرفين انفسهم و صفوف نشطاء الاسلام السياسي. انها لا تستطيع ان تعبيء الجماهير الواسعة في الشرق الاوسط. ان الصراع الدعائي والمعارك الايديولوجية الموجهة للصراع العسكري الدموي المرتقب لا يمكنه ان يستند الى هذه الادعاءات المتطرفة، الطائفية و البدائية المفضوحة. واخيرا فان الذي باستطاعته ان يجر الجماهير الواسعة في الغرب والشرق الاوسط الى هذه الحرب و يجعلها تصطف حول الطرفين في هذه المخاصمة الرجعية، ليست هذه الافكار البدائية و البسيطة، بل هي توضيحات و تبريرات اكثر ظرافة بكثير كالتي نرىرشدها السريع الان.

في معادلة الغربيين، و بالرغم من الايماءة العصبانية لبوش، فان " البشرية المتمدنة" تقف في وجه وباء الارهاب. تصور امريكا كقائد هذا الصف المتمدن. الهدف هو ابطال الارهاب و جلب الارهابيين الى العدالة، المسالة تبدو من حيث الظاهر بانها اكثر بساطة بكثير من الهجوم على العراق و قصف بلكراد. من الذي يمكنه ان يلوم امريكا في سياستها العسكرية في الوقت الذي قتل ٦٠٠٠ شخص من "شعبها " بمثل هذه القساوة ؟ ما الذي سيكون اكثر وضوحا من العمل العسكري الامريكي لسحق هذه الارهابية و"لحماية مواطنيها " وحتى من اجل حماية سكان العالم من الجرائم الوشيكة اللاحقة ؟ هذه المرة، ومن اجل التواجد في نادي البشرية "المتمدنة "لم يضعوا شروطاً اثنية، عنصرية او دينية. الراغبون في الدخول الى هذا النادي – من اي لون , أو مظهر أو دين و خلفية – لا يحتاجون سوى الى ملء استمارة الولاء لامريكا. هذه المرة، الدعاية الحربية لن تكون عنصرية، اثنية، دينية او حتى سياسية. المسالة ليست حفظ مرور النفط، الدفاع عن برعومة الديمقراطية في العربية السعودية واعادة الكويت الى شيوخها. اذا كان الجيش الامريكي يتظاهر، لتكرار ما كان يقوم به في المرات العديدة السابقة، على انه للدفاع عن حق الحياة، الدفاع عن حق السفر، حق عدم تفجير الانسان في زاوية بيته وفي الشوارع، فان جريمة ١١ ايلول اعطت اقوى اطار ايدلوجي و دعائي لحد الان للتدخل العسكري لامريكا وحلف شمال الاطلسي في أبعد الزاويا من العالم.، ان فصل الجماهير الواسعة في الغرب عن السياسة العسكرية للهيئة الحاكمة لهذه الدول في هذه اللحضة، يحتاج الى عمل توعية جبار. ان هذا التوازن الفكري من الممكن ان يتغير بسرعة مع التحولات الجديدة، لكن في هذه اللحظة فان اطروحة " صراع المدنية ضد الارهاب " وضعت السيطرة على الراي العام في الغرب بشكل كامل تحت ايدي السياسيين و الاعلام الغربي. في القطب المقابل ايضا فان اطارا نظريا معقدا و الى حد ما مؤثرا في الدفاع عن الاسلام السياسي و الارهاب هو في حال التكوين. قليل من يجراء علنا الدفاع عن قتل الآلاف من السكان في امريكا. حتى الوحوش الحكامة في ايران و افغانستان مضطرون الى تعديل كلامهم. ان الدفاع العلني عن الاسلام السياسي و الارهاب الاسلامي سوف لن يكون الراية الدعائية لهذا القطب. ان الطرف الاسلامي في حرب الارهابيين سيستند الى صيغة مؤثرة ولكن قديمة لتبرير الارهاب الاسلامي، الصيغة التي كانت احدى اسس "معادة الامبريالية " للبرجوازية الصغيرة في العالم الثالث، خاصة في الشرق الاوسط. نحن، وقبل سبع سنوات و اثناء موجة القتل الاسلامية في اسرائيل، مصر، والجزائر فضحنا بوضح و ادنا هذا الدفاع الرجعي للارهاب في افتتاحية جريدة "انترناسسيونال ". لا تكون غير مفيدة اذا نقلنا ادناه تلك المقالة القصيرة :

" اجتاحت منطقة الشرق الاوسط وشمال افريقيا موجة من القتل الاسلامي للبش، ضحايا هذه الموجة هم أبسط بسطاء الناس. في مصر والجزائر يتعرض الغرباء بمن فيهم العمال و السياح والمتقاعدون الى الرمي بالرصاص والى الذبح، صفوف تلامذة الابتدائية تهاجم بالقنابل، الفتيات اللواتي يرفضن الزواج الاجباري يغرقن بدمائهن. في تل أبيب يقتل عابرو السبيل من الاطفال والشيوخ والشباب في الشوارع اوداخل الباصات، ومن اسرائيل الىالجزائر يطمأنون، ببسالة، البشرية الحائرة بان هذا " النضال المسلح " سيستمر.

في ما مضى كان اليسار التقليدي" المعادي للامبريالية "، ينظر الى هذه الخشونة العمياء والارهاب المطلق العنان للتيارات العالم ثالثية والمعادية للغرب، ان لم يكن من باب الاشادة، على اقل تقديرمن باب غض الطرف. كانوا يزعمون بان هذا الارهاب هو رد فعل مشروع لما تتعرض له الامم المحرومة والشعوب المضطهدة. ان ارهاب المجموعات الفلسطينية، التيارات الاسلامية أو الجيش الجمهوري الايرلندي الذي كان غالبية ضحاياه من المدنيين الابرياء، نماذج واضحة لهذا الارهاب " المجاز " في الفترة الماضية. ذلك الارهاب الذي كان في الظاهر يرد على المظالم الحالية والسابقة، الارهاب الذي تواجد في الظاهر كرد فعل علي المآسي والسياسات اللاانسانية للدول والسلطات القمعية. ما يثير الدهشة هو ان دولة اسرائيل كذلك وعلى مدى سنين طويلة كانت قد تذرعت بنفس الذريعة، اي ذريعة التصفية العرقيية غير القابلة للوصف التي ارتكبتها الفاشية الهتلرية والتيارات المعادية لليهودية في الدول المختلفة بحق الشعب اليهودي، لتقمع وبوحشية الشعب الفلسطيني المحروم وتقتل الشباب الفلسطيني يوميا.

هذه الذرائع، وهذا الارهاب الاعمى الذي تمارسه هذه الاطراف، سواء كانت المنظمات العربية الفلسطينية أو الحكومة الاسرائيلية، في الشرق الاوسط، كان وسيضل موضع الادانة والاستنكار من وجهة نظر الشيوعية والطبقة العاملة. ليست هناك اية صلة واقعية ومشروعة بين المصائب الرهيبة التي تعرض لها الشعب اليهودي في القرن الماضي وبين الجرائم التي ترتكبها الحكومة الاسرائيلية اليمينية المتطرفة ضد الفلسطينيين. ليست هناك اية صلة واقعية ومشروعة بين المصائب التي يعانى منها الشعب الفلسطيني المحروم وبين الارهاب الذي تمارسه المنظمات الاسلامية وغير الاسلامية. انه استغلال سيء تقوم به التيارات والاجنحة البرجوازية، الحكومية منها وغير الحكومية، على حساب المآسي والويلات التي تعرضت لها الشعوب المحرومة. . ادانة هذا الارهاب واقتلاع جذوره من قبل الطبقة العاملة وبالاخص في دول المنطقة هو شرط اساسي لتبوء العامل قمة النضال الاجتماعي من اجل انهاء هذه الويلات.

يبدو ان الموجة الجديدة للقتل الاسلامي للبشر وبالاخص في شمال افريقيا، لا تستوجب حتى هذه الذرائع السياسية. فعمامة وبندقية تكفيان للشروع بهذا الجهاد القذرضد الانسانية. ان هذا هوالعصابية الاسلامية ومصدرها النظام الحاكم في ايران وان مصيرهذا التيار سيحسم في ايران نفسها". (منصور حكمت، انترناسيونال العدد ١٦- تشرين الثاني– نوفمبر ١٩٩٤).

مع تصاعد هذا الصراع وبالاخص مع الهجوم المحتمل للجيش الامريكي وحلفاءه على افغانستان يمكن لاطروحة" الدفاع عن التيارات الاسلامية بحجة معاداة الامبريالية " وحتى تبرير اعمالها الارهابية بذريعة الجرائم والقمع الذي تمارسه امريكا واسرائيل، يمكنها ان تسري في اوساط الجماهير والاحزاب السياسية في الشرق الاوسط وكذلك بين قسم من اليسار التقليدي والمثقف في المجتمعات الغربية. الملاذ العقائدي الاساسي لهذه الرجعية والعصابية الاسلامية في هذه المعركة من اجل السلطة، سوف لن تكون بوضوح شعارات فاسدة ولاانسانية دينية واسلامية، بل ستكون شعارات البرجوازية الصغيرة قومية ووطنية أي ما يسمى بالشعارات" المعاديية للامبريالية ".

في مواجهة هذه الحرب الارهابية، لن تستطيع اية حركة شعبية ان تحقق النجاح من دون فضح وتحطيم هذا الاطار العقائدي والاعلام الحربي المتملق في طرفي هذا الصراع الرجعي
 

ما الهدف من الصراع ؟

الصراع من كلا الطرفين هو على السلطة. الارهاب هو حقيقة واقعية في هذا الصراع، الا ان هذا الصراع وهذه الحرب الوشيكة ليست حول الارهاب. الجميع يعلم بان دخول امريكا الى افغانستان، وحتى اعتقال بن لادن لن يقلل قيد شعرة من الحملة الارهابية للتيارات الاسلامية التي تهدد الغرب ولن يجلب المزيد من الامن لسكان اوروبا وامريكا، بل بالعكس فانه يزيد من هذه المخاطر. المسالة الفلسطينية هي ذلك المسار الذي يتم فيه المواجهة المباشرة بين امريكا والحركة الاسلامية، الا ان هذا الصراع هو كذلك ليس من اجل حل المسألة الفلسطينية. السياسة المعلنة لامريكا هي حرب عسكرية " واسعة ومستمرة وشاملة " تزيد علنا من حدة المسألتين، فلسطين ومسألة الارهاب الاسلامي. ليس هذا فحسب، وانما الحرب الاهلية المحتملة في باكستان وما يتبعها من عواقب وخيمة في المنطقة وعلى الصعيد العالمي والازمات الحكومية العميقة في الدول التي تبدو في الظاهر تنعم فعلا بالثبات في الشرق الاوسط، يمكنها ان تكون من النتائج الاولية لهذه السياسة العسكرية. هذا ما يعلمونه هم جيداً. الا ان المسألة الاساسية بالنسبة لامريكا في هذا المجال هو تثبيت وتوسيع نفوذها وسلطتها السياسية والعسكرية على العالم بصفتها القوة الوحيدة العظمى. حل مسالة فلسطين أو محاربة الارهاب الاسلامي ليست من اهداف هذه السياسة. توسيع وتحكيم الموقع العالمي لامريكا، في قلب الضغوط وكذلك الفرص التي اوجدتها جريمة الحادي عشر من ايلول هو الهدف الاساسي من هذه السياسة.

هذه الحرب بالنسبة للاسلاميين كذلك حرب من اجل السلطة. لا آلام الشعب الفلسطيني ولا الظلم التاريخي من قبل الغرب على الشرق هو مصدر هذا الأرهاب. التيار الاسلامي يسعى من اجل بقاءه وحفظ موقعه الآخذ بالزوال، و في نهاية المطاف يسعى من اجل توسيع موقعه في البنيان السلطوي للبرجوازية في الشرق الاوسط. العداء الاعمى للغرب وكل ما هو غربي يشكل راسماله السياسي في المجتمع وبين افراد ذلك الشعب الذي ينظر الى امريكاواسرائيل كعوامل رئيسية للظلم الذي يتعرض له. الصلح في الشرق الاوسط، تاسيس الدولة الفلسطينية، التخفيف من المظالم الاثنية والقومية وازالة التميزالذي يفرض على الشعب الفلسطيني، تدق ناقوس الموت للحركة الاسلامية في الشرق الاوسط. الارهاب هو الوسيلة الرئيسية للتيار الاسلامي من اجل تعميق الهوة الاثنية والقومية والدينية في الشرق الاوسط و من اجل الحفاظ على هذا الصراع باعتباره راسمالاً سياسياً ومصدر تسلط هذا التيار. الاسلاميون، وبالرغم من كل ما يتعرضون له من ضغوط عسكرية من قبل امريكا فانهم يستقبلون هذه المواجهة.

من اجل تشكيل حركةشعبيية مستقلة في مواجهة هذا التقابل الدموي الذي لم يسبق له مثيل بيين الاقطاب العسكرية والارهابية الدولية، يجب كشف حقائق هذه التحولات التي يسعى الاعلام الحربي وتوجيهات الاقطاب المتصارعة الى حجبها، واظهارها للجماهير. هذه الحادثة والسياسة التي تتبعها أمريكا، لها عواقب عالمية ومحلية مهمة، تؤدي الى تغيير عميق في الوجه السياسي والفكري للعالم. السياسسة في ايران ستتأثر بقوة بهذه التحولات، يتوجب علينا تحديد العقد الرئيسية في هذه التحولات ورسم سياسة اصولية شيوعية

منصور حكمت 

ترجمة: عبدالله صالح و مؤيد احمد 

 

 

العالم ما بعد ١١ ايلول 
الجزء الثاني: أين هو "العالم المتحضر"




 

البربرية ليست امراً حتمياً

يمكن لحرب الإرهابيين أن تكون بداية لإحدى اكثر الحروب المعاصرة دموية.إلى هنا ومئات الملايين من البشر حبست أنفاسهم. إلا أن هذا الأفق ليس محتوما. لا ينحصر الميدان بطرفي النزاع، هناك قوة ثالثة، عملاق نائم، يمكنه قلب الأوراق، يمكن لهذه المرحلة، إذا ما استيقظ هذا العملاق، أن تكون بداية تحولات إيجابية وتحقيق تلك الأهداف التي يئست من تحقيقها البشرية في العقود الأخيرة من القرن العشرين.لا يعلم بوش وبلير وخامنئي، أمريكا والناتو والإسلام السياسي، بان هناك في الواقع بشرية متحضرة، عام متحضر، يمكنه أن يدافع عن نفسه ضد حرب الإرهابيين. ورغم كل هذا الظلام وهذا الرعب الذي يواجهوننا به، يمكن للقرن الواحد والعشرين أن لا يكون قرن توحش الرأسمالية. إنها لأيام مصيرية.

وسائل الأعلام لا تعكس الوجه الأيديولوجي والمعنوي الواقعي للعالم، تعكس الرؤيا التي تصب في صالحها، في صالح الحكام، في صالح الطبقة الحاكمة، تعكس ما في نفعها. فالعسكرتارية، الإرهاب، العنصرية، القوموية، التعصب الديني وتقديس المصالح، كلها تتصدر الأخبار، إلا أن كل ذلك ليس له مكان راسخ في أعماق أذهان الأكثرية الساحقة من الناس. فبنظرة بسيطة للعالم ، يتبين ان الجماهير الواسعة في العالم هي اكثر يساريةً من الدول ووسائل الأعلام، اكثر إنسانية، ، اكثر ادعاءا للمساواة، اكثر تحررا، اكثر الداعين للحرية. الجماهير في طرفي هذا الصراع المشين، لا تميل إلى جعل زعماء البرجوازية فرساناً لها. المؤسسة الحاكمة المتغطرسة في أمريكا تنتبه فورا بأنه وعلى الرغم من إحدى اعظم الجرائم الإرهابية، على الرغم من الرؤية الحية لمسلسل توقف قلوب الآلاف من البشر عن النبض، على الرغم من الحزن والغضب اللذان انتابا أي إنسان لم يبع وجدانه لمصلحة ما، فان نفس المجتمع الغربي، نفس الجماهير التي تتعرض يوميا لغسل الادمغة، نفس هؤلاء الذين يتلقون من الطبقة الحاكمة تعاليم العنصرية ومعاداة الأجانب ليل نهار، يطالبون بأخذ الحيطة، والأنصاف، والعدل، وبرد فعل مناسب. إن الجماهير في الشرق الأوسط بدأً من أولئك الذين هم داخل العالم القذر لجمجمة الخامنئيين والخاتميين وملا محمد عمر وامثاله وشيوخ الحركة الإسلامية صغارا وكبارا، والذين هم داخل الاستوديوهات الراقية في محطة C.N.N أو B.B.C ويتم تعريفهم بأنهم الأمة الإسلامية المتعصبة وابناء " الحضارة الإسلامية "، نراهم يقفون جنبا إلى جنب مع جماهير أمريكا في حزنها، ونراهم يقفون معترضين وساخطين.

إن الإدراك بان غالبية الناس في الشرق الأوسط ينتابهم النفور والسخط من الإسلام السياسي، الإدراك بان القسم الأكبر من الأوروبيين الغربيين والأمريكيين قد سئموا من اجحافات حكومة إسرائيل ويشعرون بالميل نحو الجماهير الفلسطينية المحرومة، الإدراك بان الغالبية العظمى من هذه الجماهير يطالبون بإلغاء العقوبات الاقتصادية عن العراق ويمكنهم أن يحلوا محل الآباء والأمهات العراقيات الذين يترقبون بحزن موت أطفالهم بسبب انعدام الدواء، الإدراك بان هذه الجماهير الواسعة الشريفة وصاحبة الوجدان في العالم ليست مع بوش وبن لادن، أعداء اليوم وأصدقاء ألامس، في حربهم ، إدراك كل هذه الأمور لا يحتاج إلى الكثير من الوعي. ورغم إن البشرية المتحضرة تعيش تحت تأثير الدعاية وغسل الادمغة والرعب في الغرب والشرق والمدفوعة إلى الصمت، إلا إن رفضها لهذه السخافات يمكن رؤيته بوضوح. هذه قوة عظمى، يمكنها التخندق في الميدان. من اجل مستقبل البشرية، يجب إن تتموضع في الميدان.

وهنا تكمن صعوبة الأمر بمجمله. أي جلب هذه القوة العظيمة إلى الميدان. في حرب الإرهابيين شخصت خطوط المواجهة، انقسمت الصفوف، عبئت المصادر والقوى، انها مواجهة عسكرية وسياسية ودبلوماسية واسعة، ولكن رغم كل ألا بهامات، فان الإطار الفكري والسياسي لهذه الحرب واضح للمعسكرين، ولكن في معسكرنا، في معسكر البشرية التي يجب إن تقف بوجه هذا الأفق المرعب، يكتنف الغموض كل الامور.

ليس هناك شك بان صفوف المقاومة بوجه حرب الإرهابيين تشكلت ونشطت على مدى واسع في مختلف الدول. ولكن بقدر حاجة الإسلاميين وأمريكا لنظرية وستراتيجية واضحة، لرؤيا واحدة ومؤثرة، كذلك هذه الحركة الجماهيرية بحاجة إلى راية فكرية وسياسية وجملة من المبادئ الستراتيجية المؤثرة. الحركات السياسية المختلفة، بالأخص في الجناح اليساري، تسعى إلى توجيه هذه المقاومة وتولي قيادتها. والسؤال المطروح هنا هو: ما هي الاتجاهات السائدة داخل نفس هذا "اليسار"؟.

قلنا في الجزء السابق بان هناك من يقف إلى جانب صقور هذين القطبين، اقطاب العسكرتارية في أمريكا والفاشيون الإسلاميون، كذلك هناك تفسيران اكثر تعقيدا واعداداً و" احتراما " في الدفاع عن طرفي هذا الصراع. إلى جانب اقطاب العسكرتارية في أمريكا هناك أشخاص يروجون لمعادلة صراع الحضارة ضد الإرهاب. وإلى جانب سفاحي الحركة الإسلامية هناك أشخاص يروجون للإرهاب الإسلامي باعتباره حركة " معادية _ للإمبريالية " وطنية _ قومية كتلك التي كانت رائجة في عقد السبعينات في العالم الثالث. ولكن لن يكون لأي من هاتين الرؤيتين أي نفوذ جدي داخل حركة المقاومة الجماهيرية. تشكل الأحزاب والمجموعات اليمينية في الغرب وبقايا اليسار التقليدي، الطلبة الجامعيون – المتنورون في العقود الماضية، في الغرب والشرق، القوى الأساسية لهذه المعادلات الأكثر نزاهة في الدعاية الحربية لدى الطرفين. إن من يستطيع، على الصعيد النظري والسياسي، جر الحركة الجماهيرية الطليعية إلى المتاهات ، هو، باعتقادي، الموقف المسالم والسعي الليبرالي العبثي من اجل الحفاظ على الوضع الراهن ( فقط محاولة وقف الهجوم الأمريكي على أفغانستان ) أو بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليها ( قبل ١١ من أيلول ).

أحداث الحادي عشر من أيلول لم تكن عملا جنونيا اقدم عليه أناس منقطعون عن المجتمع، مثلما هو الحال بالنسبة للعمل العسكري الوشيك لأمريكا. العالم قبل الحادي عشر من أيلول لم يكن في نقطة توازن، بل كان في مسار تحولات قسرية. مشاكل اقتصادية واجتماعية وسياسية مهمة كانت تقف خلف هذه الأحداث. هذه المعضلات هي التي دفعت العالم بهذا الاتجاه. ينبغي الاجابة على هذه المشاكل. الحادي عشر من أيلول كان جانبا من جواب الإسلام السياسي على هذه الأوضاع. كذلك فان تنصيب طالبان، تدمير بغداد، تجويع الناس في العراق، خنق الجماهير الفلسطينية، قصف بلغراد، والآن " الحرب الطويلة الأمد مع الإرهاب" هو جانب من جواب أقطاب الرأسمالية في أمريكا وأوروبا على هذه الصراعات. الحركة الجماهيرية بوجه أوضاع كهذه لا يمكنها إن تكون حركة تنادي بالمسالمة و " منع الهجوم على أفغانستان ". فالمسالمة والحفاظ على الوضع الراهن ليس فقط مسألة غير عملية، ليست فقط مسالة خيالية، بل وغير عادلة، غير تحررية وغير مؤثرة أيضا. حركة المقاومة الجماهيرية بوجه حرب الإرهابيين يمكنها فقط إن تنتظم حول الحلول الإيجابية للمعضلات السياسية والاقتصادية والجوهرية في عصرنا وحول موقف فعال ، لا من اجل الحفاظ على الوضع الراهن، بل من اجل تغيير الوضع الراهن. نحن وفي مواجهة كل هذه المعضلات التي ظهرت للعيان مع هذه الأحداث، مسألة الشمال والجنوب، المسألة الفلسطينية، مسألة العراق، مسألة الإسلام السياسي، مسألة أفغانستان وإيران، مسالة عسكرتارية وغطرسة أمريكا والناتو في النظام العالمي الجديد، مسألة العنصرية، مسألة قلعة أوروبا وغيرها، لدينا جدول اعمال مستقل واجوبة المستقلة. هذه الاجوبة يجب ان تتحول إلى جدول اعمال واجوبة حركة المقاومة الجماهيرية بوجه حرب الإرهابيين. وهذا هو ما يميزنا عن دعاة المسالمة والمتخاذلين الذين لا يرون الخلافات والصراعات وعدم الاستقرار في العالم ما قبل الحادي عشر من أيلول ،أو لا يعيرونها أية أهمية. إذا كنا نمتلك وقبل كل هذه الأحداث، برنامج عمل لتغيير العالم، فان اتخاذ موقف مبدئي في الوضع الحالي يجب إن يكون امتدادا لنفس ذلك البرنامج في الأوضاع الجديدة الحالية. نحن لا ننوى إبقاء أفغانستان تحت سلطة القتلة في طالبان، نحن لاننوي العيش تحت سلطة أمريكا والأصابع على مفاتيح اطلاق الصواريخ، نحن لا ننوي تحمل الإسلام السياسي والحكومات الإسلامية في الشرق الأوسط، نحن لا ننوي الاقتناع بالقمع اليومي للفلسطينيين وإبقاءهم دون دولة، نحن لم نكن نريد لا الإرهاب الإسلامي والانتحاري ولا الذي يمارس من قبل العسكر والجنرالات ،نحن لا نقبل بهذا الفقر السائد في العالم، نحن لا نريد القلاع والأبراج العسكرية تحيط بأوروبا، نحن لن نخضع للعنصرية والتعصب القومي. فلا جريمة ١١ أيلول ولا الجهاد الوشيك للناتو في الهندوكش، لا ينبغي لأي منهما ايجاد صف مسالم وداعي للأستقرار في قلب حركة فعالة من اجل تغيير العالم.

الحركة " الإنسانية" والداعية للسلام لا تمثل الرد المناسب على الظروف الحالية، إلا إن نفوذ هذه الحركة وبالأخص لدى الناس العاديين في المجتمع الغربي، هو نفوذ واسع بسبب معاداة العنف، وحب الإنسانية وكذلك التحفظ الذاتي للجماهير. هذا الموقف يدين تدخل أمريكا في أفغانستان ، إلا انه لا يجد نفسه مسؤولا إزاء حكم طالبان. يدين التحركات ضد المسلمين ويدين العنصرية، لكنه لا يرى مبررا للضغط على إسرائيل وأمريكا لصالح الجماهير الفلسطينية. هذا الموقف يتمنى النجاح لجاك سترو في سفره (إلى إيران – المترجم ) لانه ولربما يؤدي إلى تهدئة وتحييد هذا القطب الإرهابي الإسلامي، رغم انه سيشدد من قبضة هذه الذئاب على رقاب الناس في إيران، يدافع هذا الموقف عن الحقوق المدنية للناس المسلمين في الدول الغربية، إلا انه ومن اجل ازالة اسباب التأزم يحول دون نقد الحجاب الإسلامي وانعدام حقوق المرأة في البلدان والاوساط الإسلامية. هذا الموقف يناشد الجميع لترك الميدان وترك الأوضاع كما كانت في السابق. إذا ما سيطرت هذه الحركة على أذهان وافعال الجماهير الساخطة، فان البشرية المتحضرة ستترك الميدان للإرهابيين الغربيين والشرقيين. إذا ما أريد لمستقبل إن يكون، فان ذلك مرهون بظهور برنامج عمل فعال، تحرري وطليعي في مقدمة صفوف الجماهير. وهذه مهمة الشيوعيين ، الشيوعيون الجدد، شيوعيو ماركس. هذه مهمتنا ووظيفتنا.

سأتطرق في الجزء القادم إلى النقاط الأساسية لبرنامج عمل فعال للتصدي لحرب الإرهابيين. إلا انه من الضروري الإشارة باختصار إلى اكثر المسائل إلحاحا والمطروحة هذه الأيام واعني بها الهجوم الوشيك لأمريكا على أفغانستان. 99% من سكان العالم يمكنهم إن يوضحوا بجلاء استحالة، من الناحية العملية، القبض على أو حتى قتل بن لادن، باعتباره الهدف المعلن لهذا الهجوم، وانه لن يعجز عن تقليل مخاطر الإرهاب الإسلامي ضد أمريكا وبريطانيا فحسب، بل سيضاعف بشدة من خطورة العمليات اللاحقة. انه لامر جلي كون حكومتي أمريكا وبريطانيا يدركان ذلك. تحليل الغرب الرسمي لهذه المسألة يدخل يتأطر بإطار تحليل هوليودي وجيمس بوندي والذي يبدو لهم في الظاهر اسهل وابسط تقبلا من لدن الناس. مليونير أو مجنون في زاوية متروكة من هذا العالم ينوي تدمير الحضارة، صدام، ميلوسوفج، بن لادن، وابطال أمريكيون يبادرون إلى إنقاذ البشرية. إلا إن تحليلاتهم تبين بان الإسلام السياسي والإرهاب الإسلامي لا يمتلك مقرا مركزيا وقيادة واحدة وتنظيما هرميا، إنه حركة دولية متكونة من خلايا وتنظيمات وشبكات ومحافل دولية ارتبطت مع بعضها في سلسلة من العلاقات الرسمية وغير الرسمية ، في هيئة حركة سرية، لها ابتكارات واسعة على الصعيد المحلي. الدخول إلى أفغانستان بالنسبة للغرب هو بداية لحملة عسكرية وسياسية أوسع. اعتقال بن لادن أو قتله سينعكس على الوضع الداخلي في أمريكا وذلك بالتقليل من ضرورة الإقدام العسكري الفوري اللاحق ويمكنه إن يكون دليل لمصداقية " انتقام أمريكا " ويؤدي إلى تهدئة الأجواء الداخلية في أمريكا والى إن تبدأ الهجمة الإرهابية اللاحقة للإسلاميين والى ذلك الحين فقط، إلا انه يعتبر خطوة صغيرة ضمن حركة سياسية وعسكرية أوسع في الشرق الأوسط والتي لم تعرف حدودها النهائية لحد الآن. وفي التحليل الأخير فإنها تجربة ذاتية مع الإسلام السياسي. أي مع الحركة الرجعية التي أوجدها الغرب نفسه في هوامش المجتمعات الشرق أوسطية ودفع بها إلى المقدمة من اجل مواجهة اليسار في الرأسماليات الحديثة الظهور في هذه الدول ومن اجل الضغط على المعسكر الشرقي. هذه التجربة الذاتية يمكنها إن تبقى محدودة، ولكن وبالأخص لوجود صفة عدم التمركز وصفة التطرف في الإسلام السياسي والإرهاب الإسلامي، فانه يمكن، وباحتمال قوي، إن يجر إلى حل حاسم وأكثر جذرية. لا يمكن للإسلام السياسي في الشرق الأوسط إن يدوم دون حماية من الغرب. إلى هنا فان تنامي معركة العلمانيين والإسلاميين في باكستان و تخبطات الهيكل الهزيل للخاتميين في إيران والاشتداد المجدد لصراع الأجنحة، كلها مؤشرات على إن مواجهة الغرب مع الإسلام يمكنها إن تكون لبنة تغيرات جدية في توازن القوى داخل التكتلات البرجوازية في هذه البلدان بضرر الإسلاميين.

ماذا يمكن إن يقال عن الهجوم الأمريكي على أفغانستان. هل إن رفع شعار " ارفعوا أيديكم عن أفغانستان " هو موقف مبدئي وتقدمي؟ جماهير أفغانستان ومعارضته ستقول لكم شيئا آخر عدا هذا. إن آفاق سقوط طالبان، تلك الزمرة السفاحة واكبر تجار المواد المخدرة، دفعت بالقوى السياسية في أفغانستان إلى تحرك متفائل.فمطلب إسقاط طالبان هو مطلب إنساني وتقدمي. والخلاف المبدئي والصحيح مع العسكرتارية الأمريكية يجب إن لا يسمح بتفسيره بأنه يعني ترك أفغانستان تحت سلطة طالبان. انه لمثال من الأمثلة الحية على نقص وخطأ الخط الداعي إلى المسالمة والحفاظ على الوضع الراهن. منذ أمد بعيد والجماهير في أفغانستان تنتظر يوم سقوط طالبان. والواقع هو إن أمريكا لا تدخل هذا البلد من اجل إنقاذ أفغانستان. فهم الذين جاءوا بطالبان إلى الحكم، هذه المرة يمكنهم إن يضعفوا طالبان، ولكنهم يمكن إن يقبلوه كأمر واقع. وقد وعدوا مشرف بان تكون الحكومة القادمة في افغانستان موالية لباكستان. من المقرر إن يطيحوا ببعض الوحوش ويصنعوا من نفس القماش أشخاصا آخرين. الموقف المبدئي هو المشاركة جنبا إلى جنب المعارضة التقدمية في أفغانستان من اجل إسقاط طالبان في الظروف الحالية وإقامة دولة منتخبة من قبل الجماهير. يجب فرض ذلك على الغرب وأمريكا والأمم المتحدة. يجب شجب واستنكارأي هجوم للقوات الامريكية وحلفائها على المدنيين وهدم المدن والقرى والبنى التحتية ووسائل العيش المادية. ينبغي شجب وادانة أية مساومات بين أمريكا وباكستان وإيران وكافة الدول والتي تهدف إلى فرض تنصيب جهة أخرى على الجماهير في أفغانستان. ولكن إسقاط طالبان من قبل الجيوش الاجنبية هو بحد ذاته عمل غير مدان. طالبان ليست حكومة شرعية في أفغانستان. وينبغي اسقاطها. المسالة هي حول الحكومة التي ستعقب طالبان وكذلك ضمان الحرية والإمكانية العملية لتدخل الجماهير في أفغانستان في تحديد النظام السياسي في هذا البلد

 

العالم ما بعد ١١ ايلول 
الجزء الثالث: أفول الاسلام السياسي



خارج قطبي الصراع الرجعي المعاصر، أي عسكرتارية امريكا والدول الغربية من جانب، ومعسكر الاسلام السياسي والجماعات الارهابية الاسلامية من الجانب الآخر، تشكل أجواء القلق والاضطراب، الأجواء السائدة على أغلبية الجماهير الانسانية والمتطلعة للسلام في العالم. انها اجواء اليأس. فالجميع قلقون من وخامة الأوضاع وتعقدها، أي تنامي سباق الجنون والارهاب، التشرد وموت مئات الآلاف من الناس الأبرياء في أفغانستان، الهجوم الكيمياوي والجرثومي على الغرب، الانفجار السياسي في باكستان، وقوع القنابل اليدوية "المحمولة" و"الموجهة" بيد المغامرون والمتعصبون الدينيون والمجرمون العالميون. "حرب امريكا الجديدة" ومرحلة جديدة من نزيف الدماء العالمي بمستوى لم ولن يقدر عليه سوى امريكا. ان شعارات واحتجاجات الناس الشرفاء في العالم تسعى بشكل عام للحفاظ على الأوضاع الموجودة واعادتها الى نقطة التوازن السابقة. انها بششرية فقدت املها بمستقبل أفضل، وهي تطالب في أفضل الاحوال بالاستقرار، وتهرب من القنابل والحرب والعنف، بشرية تعرف رغم مظهر تفكيرها الساذج وقلة وعيها وخضوعها اليومي، القدرات المعادية للانسانية للوحوش الذين دخلوا الميدان، أي الاسلام السياسي والعسكرتارية الامريكية، وتريد التصدي بأي ثمن للمآسي المقبلة. ومن بين الطيف الواسع للقوى التي دخلت الميدان لمناهضة هذا الصراع، بقايا محافل اليسار الهامشي في اوروبا التي لم تكن ترضى لحين ١١ ايلول بشيء أقل من "الثورة العالمية"، وهي تطالب الآن فقط بالاستقرار، وتسعى لايقاف التيار الجاري الآن، وتحاول الحفاظ على الأوضاع الموجودة واعادتها الى نقطة توازن ما قبل ١١ ايلول، وهذه هي السياسة السائدة والمهيمنة عليها. فالتخاذل هو الاتجاه المهيمن والسائد على حركة المقاومة. وهذه السياسة ضارة لدرجة لايمكن تصورها ولا تعجز فقط عن منع حدوث المصائب والمآسي المقبلة، بل وانها تضمن وقوع تلك المآسي والكوارث والنكبات.

السياسة التخاذلية، والصدمة بالجوانب العسكرية لهذه المواجهة والعنف الفيزيقي الذي من الممكن أن يحل بالعالم، تحمل بالضبط تلك الأضرار التي تصيب الناس بالشلل السياسي. ان التصدي لهذا السباق الأرهابي وهذه الموجة من الانفجارت والتدمير والابادة الجماعية التي يعدونها لنا مرهون بتدخل جموع الجماهير الواسعة، في اوروبا وأمريكا وأيضا في الشرق الأوسط والبلدان المسماة ببلدان العالم الثالث في المسارات السياسية التي ستنتجها هذه الأحداث. تدخل قائم على اساس برنامج عمل فعال وايجابي. وفي هذه الحالة ليس بالضرورة أن يكون أفق المستقبل مظلما. ومن الضروري اخراج تلك المسارات والوقائع السياسية من تحت رماد الدعاية الحربية.

في الجانب الآخر للدعاية الرسمية: الارهاب والاسلام السياسي

لا أشك في أن أي شخص، حتى داخل نفس الجيش الأمريكي، يقبل هذا التفسير القائل أن جريمة ١١ ايلول هي عمل جماعة متعصبة يوجهها من افغانستان شخص يدعى اسامة بن لادن وهو له عداء شخصي وأعمى مع امريكا و"نمط الحياة" الامريكية و"الديمقراطية". وتصر وكالات الانباء الغربية على أن هذا العمل لم يكن من أعمال من "أعمال المسلمين"، ولم يكن نابعا من " تعاليم القرآن". ويسعى الصحفيون المحنكون، قدر الامكان، لطمس حضور اسم القضية الفلسطينية واسرائيل فيما يجري . ويقولون أن أي ربط للقضية الفلسطينية بهذه الهجمة الارهابية يعني القبول بأن هذا العمل كان له أثر في جلب أنظار الغرب الى أوضاع الفلسطينيين. وبالنتيجة يحيلوننا الى بن لادن وأفغانستان بدلا من الاسلام السياسي واسرائيل. حرب امريكا مع طالبان هي حدث بالغ الأهمية وسيكون لها نتائج بعيدة الأثر على صعيد المنطقة والعالم. وستترك هذه الحرب، من دون شك، آثارها على مصير الاسلام السياسي وحتى على القضية الفلسطينية. اما عن علاقتها بملاحقة ومعاقبة الضالعين بتنفيذ جريمة ١١ ايلول، فليس لها أية علاقة بهذا الأمر وحتى أنها ستشدد أكثر من احتمالات الأعمال الارهابية الموجهة ضد الغرب. (سأعود الى هذا الأمر لاحقا).

ان الارهاب الاسلامي هو واحدة من وقائع عصرنا الراهن. ويشكل هذا الارهاب ركنا من اصليا في استراتيجية الاسلام السياسي. فالاسلام السياسي بوصفه حركة رجعية في المنطقة وحاليا على صعيد العالم، تتغذى وتتعكز على على الاضطهاد التاريخي لاسرائيل والغرب الممارس بحق الناس الناطقين بالعربية وبالتحديد بحق جماهير فلسطين. فانعدام وجود بلد لجماهير فلسطين وظلم واضطهاد الحكومة الاسرائيلية وحلفائها الغربيين للفلسطينيين هو مصدر رئيسي للسخط والنفور من الغرب وأمريكا في منطقة الشرق الأوسط. والأهم من هذا أن وجود القضية الفلسطينية، ودعم امريكا والغرب المستمر لسرائيل مقابل العرب سواء في مرحلة الحرب الباردة او بعد ذلك، أوجد هوة واسعة وكبيرة اقتصادية وثقافية ونفسية بين الغرب والجماهير في الشرق الأوسط. أما أن يحصل الاسلام السياسي كحركة على على فرصة البروز والحضور وجعل هذه الهوة والسخط والاحتجاج الى رأسمال له والخروج من هوامش المجتمعات في الشرق الأوسط نحو قلب الصراع على السلطة السياسية، فأن هذا هو نتاج مباشر لأمريكا والغرب نفسهما. فالاسلام السياسي كحركة مجرمة بهذا المدى الواسع من الاقتدار، هو من صنع امريكا والغرب.فهذا الكابوس والوحش الكاسر هم نفسهم صنعوه واطلقوا وثاقه كي ينشب مخالبه في ارواح جماهير المنطقة واليوم ينشب مخالبه في ارواح الناس في العالم. لقد كان الاسلام السياسي وسيلة بيد الغرب في الحرب الباردة ضد السوفييت ووسيلة لهزيمة الحركات والثورات اليسارية والعمالية في كل بلدان المنطقة. انه وسيلة استخدمت بعد ازمة وفشل الحكومات القومية في الشرق الاوسط للوقوف بوجه اقتدار اليسار وقوته. وتشكل القضية الفلسطينية ووجود الحكومات الاسلامية في الشرق الاوسط ركائز الارهاب الاسلامي. ان اية سياسة فعالة وطليعية جماهيرية لمواجهة الارهاب الاسلامي ينبغي أن تبدأ من هنا:

١ - حل القضية الفلسطينية. ينبغي حل هذه المعضلة التاريخية. ينبغي ان تتمتع جماهير فلسطين ببلدها المستقل. وينبغي اجبار امريكا والدول الغربية على التخلي عن الدعم الاحادي الجانب لاسرائيل. ينبغي اجبار اسرائيل على الرضوخ للسلام واستقلال فلسطين. فحل القضية الفلسطينية اهم اركان مواجهة الاسلام السياسي والارهاب الاسلامي وجزء اصلي من برنامج عمل متقدم وفعال ازاء الاوضاع الراهنة.

٢ - على الغرب ان يتخلى عن مساندته ودعمه الرجعي للدول الاسلامية والتابعة وعن دعم الاحزاب والحركات الاسلامية في الشرق الاوسط. فبدون دعم الغرب لم يظهر النظام الاسلامي الايراني ولن يضل في البقاء. بدون دعم الغرب لن تبقى قائمة لأنظمة العبودية ومشايخ السعودية والامارات. بدون دعم الغرب لا تعجز فقط طالبان، بل وكذلك جماعات المجاهدين المسلمين السابقة عن تحويل افغانستان الى مسرح لمأساة انسانية عظيمة. فبمجرد قطع الغرب لمساعدته ودعمه السياسي والعسكري والدبلوماسي للحركات الاسلامية ستقوم جماهير المنطقة باسقاط هذه الحكومات. ولذلك فان مطلب اسقاط الحكومات الاسلامية والوقوف بوجه مساومات امريكا والدول الغربية مع تلك الحكومات ينبغي ان يكون جزءاً مهماً آخراً من برنامج عمل مناهضة الارهاب لأية حركة تقدمية جماهيرية.

٣ - يجب انهاء الحصار الاقتصادي المفروض على العراق. فقد تحولت مصائب ومآسي جماهير العراق الى قضية فلسطينية ثانية في اذهان جماهير المنطقة. وتحولت الى دليل حي على الارهاب الامريكي والغربي في الشرق الاوسط. عدا ذلك فان هذا الحصار الاقتصادي قد اطال عمر الحكومة الرجعية العراقية وفرض تراجعاً على الجماهير العراقية المحرومة ودفع بها من ميدان النضال السياسي الى الصراع اليومي من اجل البقاء الفيزيقي. ان النضال من اجل رفع الحصار الاقتصادي عن العراق هو ركن آخر من برنامج العمل التقدمي ضد الارهاب الاسلامي.

٤ -ينبغي الحضور الفاعل الى الميدان للدفاع عن العلمانية في البلدان التي يسكنها المسلمين وفي الاوساط الاجتماعية الاسلامية داخل نفس البلدان الغربية. فقد كان للأفكار المتخلفة حول تعدد الثقافات والتقصير في الدفاع عن الحقوق المدنية والانسانية للناس وخصوصاً النساء في تلك البلدان والاوساط الاجتماعية، دور في اطلاق يد الاسلام السياسي لبث الرعب في قلوب الناس وتحريك الشباب بهذا الاتجاه. ينبغي النظر الى عالمية حقوق البشر والحقوق المدنية كمبدأ وشجب واستنكار أي مساومة مع الدين وسلطة الدين الرجعية على حساب حقوق البشر.

ان الارهاب الاسلامي هو حقيقة قائمة. الا أن الارهاب ليس من اعمال المسلمين، بل هو سياسة رسمية لحركة اسلامية. وهي حركة عقيمة وصنيعة الغرب في خظم الحرب الباردة وفي الصراع المعادي للشيوعية ضد العمال والجماهير التحررية في الشرق الاوسط. انها حركة ضعيفة ومتداعية. ولا تمتلك نفوذاً سياسياً يذكر في البلدان الكبيرة في المنطقة. وهي اكثر تخلفاً عن الواقع الاجتماعي في المنطقة. وبدون حماية الغرب سيهزم الاسلام السياسي من قبل الاشتراكية والعلمانية في هذه المنطقة. ففي ايران، التي تشابه فلسطين، بكونها واحدة من اهم ميادين تقرير مصير الاسلام السياسي، بدأ الآن افول وسقوط الاسلام السياسي.

في الجزء القادم:

* حرب امريكا في المنطقة، التي اشتعل فتيلها الآن في افغانستان، ليست حرباً ضد الارهاب،لا لأنها فقط لا تجيب على مستلزمات النضال ضد الارهاب الاسلامي التي عددت نقاطها فيما تقدم، بل وانها تستند ايضاً على بعض التيارات الاسلامية نفسها. ومع ذلك فان امريكا تخوض، برأيي، الآن صراعاً مع الاسلام السياسي. هذه الحرب حرب من اجل الهيمنة والسلطة. وسيؤدي هذا الصراع بالضرورة الى اضعاف الاسلام السياسي. الا أن هدف الغرب ليس حذف الاسلام السياسي، بل اضعافه وتقليم اضافره والقيام باعادة ترتيب جديدة داخل صفوفه لخلق نقاط توازن جديدة داخلها. فالحرب في افغانستان هي حرب من اجل اعادة تعريف علاقة الغرب بالاسلام السياسي. وعلينا ان كسر هذا الاطار والتصدي لهذه المساومة الجديدة وتعقب سياستنا المستقلة بشكل فاعل في ظل الأوضاع الراهنة من اجل انقاذ المنطقة من القوى الرجعية.

* لا يرى الموقف التخاذلي هذا الصراع الجديد بين الغرب والاسلام السياسي، ولا يرى أهمية ذلك سواء بالنسبة للناس الذين هم ضحايا تلك الحركات الرجعية او بالنسبة لمسار التغيرات السياسية المقبلة في العالم ويعتبر نفسه غير مكلف بانجاز اية مهمة بهذا الخصوص. وهنا ينبغي بعث النقد لهذا الموقف المسالم والمتحفظ داخل حركة المقاومة الجماهيرية ضد الارهاب والعسكرتارية.

* بسب الابعاد والجوانب التاريخية لهذا الصراع، فان الخصائص الايديولوجية والمعنوية لجماهير العالم المعاصر خصوصاً في الغرب تختلف كثيراً عنها في مرحلة الهجوم على العراق وحتى مرحلة الهجوم على يوغسلافيا. فبالتوجه الواسع من قبل الناس نحو السياسة والنضال المدني، ستخرج العسكرتارية الامريكية من هذا الصراع اضعف من الناحية السياسية. فالصراع الراهن، الذي يدور حول زوايا معينة من النظام العالمي الجديد بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، يمكنه، في حالة دخول العنصر الطليعي، سيعرّض مجمل القضية ونفس موضوع الزعامة العالمية وغطرسة امريكا العسكرية الى طائلة النقد على صعيد اجتماعي. وهذه من منظار التطلع للحرية والمساواة أهم على الصعيد العالمي بكثير من مصير الاسلام السياسي

منصور حكمت 

 

العالم ما بعد ١١ ايلول 
الجزء الرابع: ما بعد افغانستان

 

افغانستان: حرب أم ارهاب جوي؟

ان ما يجري في افغانستان ليس حرباً. فالحرب وفق المنطق بحاجة على الاقل لوجود طرفين يحتربان. الا أن ما يجري هو في الواقع قصف افغانستان من قبل امريكا. وفي هذا التاكتيك المبتدع حديثاً تقوم قوة عظمى عالمية, نصبت نفسها كجندرمة العالم، رسمياً باحلال الارهاب واشاعة الرعب بمقاييس مليونية محل الحرب. فبعد فيتنام، تقرر أن لا يشهد المجتمع الامريكي عودة الأكياس الحاوية على جثث الجنود المرسلون الى الجبهات البعيدة. وصار ملزماً الآن أن يدفع ثمن ذلك الناس المدنيون من مواطني ذلك البلد الذي اعتبر لسوء الحظ قاعدة ومركزاً لعدو امريكا الشرير والقائد الجديد لـ"امبراطورية الشر" وفق اطروحات استرونج لاو وأشباهه في مجلس الأمن القومي ووزارة الخارجية الامريكية. فالخسائر التي لن يتكبدها الجيش الامريكي سيتم استيفائها بمئات المرات من الناس المدنيين الغافلين عما حولهم والذين يستحصلون لقمة عيشهم بآلاف المشاق في بلد فقير وعلى هامش العالم. فيوم يقع الخيار على جماهير العراق، ويوم على يوغسلافيا، ويوم على ليبيا ويوم على افغانستان. عشرات الآلاف من اطنان القنابل والصواريخ تلقى في ظلام الليل الدامس ومن ارتفاعات شاهقة جداً ومن حاملات الطائرات ومن الغواصات الكامنة في المحيطات البعيدة، على مساكن ومدن الناس. ويعلنون بافتخار انهم اعادوا البلد المقابل بالقنابل والمتفجرات الى العصر الحجري. ويصرون في هذه الحالة على ان القنابل "الذكية" لن تصيب سوى الجناة. والهدف هو اشاعة الرعب لاخافة المجتمع. وجعل الخوف هو المسيطر، الخوف من الموت، من التشرد، من انهيار اية ملامح مدنية، الى الحد الذي يصاب فيه المجتمع بالشلل. وتصبح المقاومة امراً غير ممكناً. فالقوات البرية الامريكية هي الآن مجرد كلب صيد عليه أن يقوم باحضار الطريدة الميتة بعد نهاية الصيد. ليس بامكان أي شخص، حتى امريكا والغرب، شجب الحرب ضد طالبان. ينبغي لطالبان أن ترحل وفي خاتمة المطاف يجب طردها بالقوة والهجوم العسكري. ان عداء الغرب الحالي للطالبان يفضل على صداقتهما السابقة.

ولن يقف أي شخص ضد سحب البساط من تحت اقدام السفاحين القتلة الذين دفعهم الغرب نفسه الى السلطة. الا أن بين الحرب والارهاب تفاوت واختلاف. فحملات امريكا وبريطانيا في افغانستان هي عمل ارهابي. وينبغي شجب وايقاف قصف المدن والمناطق السكانية الافغانية. فالاساطير المذهلة حول القدرة العسكرية لطالبان وتاريخ هزم القوى العظمى في افغانستان يؤدي الى خدمة هذا الاسلوب من الارهاب. لقد كان المجاهدون الافغان القوة التي تقدمت الصفوف الامريكية الغربية في الحرب ضد الاتحاد السوفيتي. طالبان هي عصابة مافيا مجرمة تعتاش على انتاج وتجارة المواد المخدرة وقد صنعها الغرب نفسه بمساعدة باكستان والسعودية. ويمكنه اطفائها من مفتاحها الاصلي وافنائها خلال اسابيع. غير أن الارهاب الجوي، أكثر اماناً، اكثر اثارةً، اكثر عيرةً للناس المتمردين في العالم، وأكثر تجسيداً لجبروت امريكا وطغيانها. ينبغي الوقوف بوجه هذا الاسلوب غير الانساني

من طالبان الى الاسلام السياسي

ان الهجمات الامريكية والبريطانية في افغانستان، حتى لو ادت الى سقوط طالبان وموت بن لادن، لن تعجز فقط عن التقليل من مخاطر الارهاب الاسلامي ضد الغرب، بل أنها ستشتد في اتساعها وتطورها على تنامي هذا الارهاب. وهذا ما يعلمه جيداً زعماء الدول الغربية ويحذرون المواطنين في الغرب رسمياً منه. ولكن اختيار افغانستان كأول ميادين وساحات الرد الامريكي مقابل جريمة (١١) ايلول، لأنه يمتلك خاصيتين اساسيتين بالنسبة لهم:

اولاً: حتى لو سلموا بأن الارهاب الاسلامي والسخط ضد الغرب الذي يغذي ذلك الارهاب، هو واقع سياسي ويحل بسبيل حل سياسي، فانهم لايرون تحويل رد فعل سياسي الى حملة عسكرية شاملة داخل الاراضي الامريكية امراً كافياً ومناسباً. فالعسكرتارية هي من اركان الايديولوجيا الرسمية فيامريكا ومركز الثقل في تعريف هويتها كقوة عظمى. ولذلك فان الهجوم على امريكا لا يمكن الرد عليه حسب هذه الرؤية الا من خلال خلال هجوم على اشخاص آخرين وفي اماكن اخرى. وبالنسبة لأمريكا فان الرد على (١١) ايلول، بغض النظر عن جوهر وأسس وخصائص الاسلام السياسي والارهاب الاسلامي، لا يمكن أن يتم الا من خلال عمل عسكري. ينبغي أن يكون هذا العمل العسكري عظيماً ومهيباً، وعليه أن يعكس "غضب وجبروت امريكا" وعنفها. الا أن العمل العسكري العظيم بحاجة لميدان محدد. والحرب تتطلب وجود ساحة حرب. لم يكن اختيار افغانستان بسبب وجود بن لادن فيها، بل على العكس كان اختيار بن لادن بسب وجوده في افغانستان. فليس قليلاً عدد قادة الارهاب الاسلامي من امثال بن لادن الذين يعيشون بأشكال علنية وسرية في ايران، بريطانيا، فرنسا، مصر، باكستان، لبنان وفلسطين والشيشان. والتصور الذي يرى أن الارهاب الاسلامي شبكة هرمية ذات سلسلة من المراتب المعلومة يقف بن لادن على رأس هرمها، هو مسخرة هزيلة. ومن البعيد جداً أن يكون خامنئي خاضع لرئاسة بن لادن في هذه السلسلة من المراتب. ان المفتاح هو أفغانستان. انها الارض التي يمكن تحويلها الى ساحة هجمات عسكرية عظيمة. افغانستان هي الميدان الممكن من أجل "الثأر الامريكي" ذو الابعاد العسكرية الشاملة والمهيبة التي وعدت بها الهيئات الحاكمة في هذا البلد. وخارج افغانستان ليس هناك أي هدف عسكري يمكن تحديده وتوجيه الضربات له. والآن حتى زعماء الغرب يشكون من عدم وجود البنايات الشاهقة والمناصب الرفيعة بالدرجة المطلوبة من اجل افنائها وتدميرها.

ثانياً: مثلما ذكرت في الجزء السابق، من المقرر ان يكون ما بعد الصراع مع طالبان وبن لادن في افغانستان تحديد مصير العلاقة وتناسب القوى بين امريكا والغرب وبين الاسلام السياسي. فـ"الحرب الطويلة الامد مع الارهاب" هي الاسم الرمزي للمصارعة مع الاسلام السياسي. انها حرب السلطة والهيمنة التي ينبغي القيام بها من منظار امريكا عاجلاً او آجلاً لتعريف الخصائص الأكثر ثباتاً ورسوخاً لنظام عالمي جديد بعد انهيار الأتحاد السوفيتي. لقد كان الاسلام السياسي أحد النتائج الجانبية للحرب الباردة، جيث برز بعد انهيار الاتحاد السوفيتي كتيار برجوازي متطلع للسلطة في بلدان الشرق الاوسط ووسط التجمعات "الاسلامية" داخل المجتمعات الغربية نفسها. هذا التيار اما حظى بالامساك بالسلطة او امتلك مواقع سياسية مؤثرة في جزء من العالم وفي بلدان لها ثقلها واهميتها مثل ايران وباكستان. انه زاوية وجانب من الصراع حول مستقبل فلسطين واسرائيل. ففي جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة وبالقرب من مراكز العتاد النووي كان يصيد الفئران، وفي نفس الغرب، يكسب الاعضاء افواجاً افواجاً من شباب التجمعات المسلمة بفضل اموال السعودية والمكارم الدولية والايديولوجيا المتخلفة لنظرية تعدد الثقافات. ومن منظار الغرب فان هذا الاسلام السياسي ما عاد الالعوبة التي كان مقرراً أن تلعب دوراً في تطويق الاتحاد السوفيتي، والتصدي لوصول اليسار الى السلطة في الثورة الايرانية ضد الملكية ومنافسة عرفات والحركة القومية العربية. هذه الظاهرة تمتلك الآن دعاة أكثر عدداً. وقد خرجت من ظل الغرب. وفي (١١) ايلول تجاوز الاسلام السياسي من منظار امريكا حدوده. فالهجمة الارهابية التي اتخذت هذه الابعاد في قلب امريكا، هي بداية المصارعة المحتومة. هذه الاحداث هي في الاساس، تفاصيل ومراحل حرب السلطة والهيمنة بين امريكا والغرب وبين الاسلام السياسي. ومن منظار امريكا فانها ستكون صراعاً مع الدول والاحزاب الاسلامية ومجمل حركة الاسلام السياسي. ان طالبان هي اضعف اعمدة سلطة الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وأكثر اهتراءاً وتداعياً ولذلك مثلت بالنسبة لأمريكا انسب نقاط الشروع بجرب السلطة الواسعة النطاق هذه. انتصار امريكا في افغانستان لا يمس من منظار عسكري وعملي اسس الاسلام السياسي. وهم يعلمون ذلك. فالمراكز الاصلية للسلطة هي في الدرجة الاولى في ايران والسعودية وفي المنظمات الاسلامية في مصر ولبنان وفلسطين. الا أن هذه الحرب هي حرب السلطة والهيمنة، وليست حرب الحياة والموت. وأفغانستان هي الميدان الوحيد الذي يجعل المواجهة العسكرية، على الاقل في الاطار الراهن للعالم، بين امريكا والاسلام السياسي امراً ممكناً. انها الميدان الوحيد الذي يمكن أن تبدأ فيه "حرب طويلة الامد ضد الارهاب" بعمل عسكري مثير ومذهل

هذا الصراع هو صراع سياسي

" الحرب الطويلة الامد ضد الارهاب"، أي حرب الهيمنة التي تخوضها امريكا ضد الاسلام السياسي، ستكون في الجوهر بعد افغانستان صراعاً سياسياً، حتى لو لجأ الطرفان في فترات معينة الى الاجراءات العسكرية المحددة والهجمات الارهابية ضد احدهما الآخر. هدف امريكا من هذه الحرب ليس حذف الاسلام السياسي. وعلى عكس ما يشيعه تيار الخاتمية فان ما "انقذ ايران من القصف" لم يكن خاتمي وسياسته الحكيمة. لأن الهجوم على ايران ومثل هذا القصف لم يكن وارداً اساً في جدول أعمال الغرب. والتصور القائل أن امريكا ستخوض بعد افغانستان حرباً ضد البلدان التي تعتبرها ارهابية واحداً بعد الآخر هو تصور سطحي وساذج تماماً. فهدف الغرب من هذه المصارعة لا افناء وانهاء الاسلام السياسي ولا حتى بالضرورة اسقاط الحكومات الاسلامية، بل ان هدفه هو اخضاع الحركات الاسلامية لهيمنته السياسية وتحديد قوانين اللعب. ومن منظار امريكا فان على هذه الحركات أن تعرف الحدود المرسومة لها. وعليها أن تحد من ميدان عملياتها في المنطقة وأن تفهم الحدود بين مكانتها ومكانة امريكا الخاصة. ليس فقط بامكان الحكومات الاسلامية أن تبقى، بل وحتى أن بإمكان الإرهاب البقاء، بشرط أن يكون الشيوعيون واليساريون في ايران وافغانستان وباكستان وتركيا ضحايا ذلك الارهاب. اما القيام بهجمات داخل اراضي امريكا نفسها فان هذا الخطأ الكبير. امريكا تريد نقل هذا التوازن الى الشرق الاوسط.

هذه الحرب هي حرب الهيمنة والزعامة وليست صراعاً حول الاسلام، الليبرالية، الديمقراطية الغربية، الحرية الحضارة، الأمن أو الارهاب. انها صراع بين القوة العظمى امريكا وبين حركة سياسية متطلعة للهيمنة في الشرق الاوسط، لها ابعادها العالمية، من اجل تعريف توازن سياسي معين وتحديد ميادين نفوذها وهيمنتها. فالغرب ليس بصدد بناء ديمقراطية غربية فيالشرق الأوسط. وأمريكا وباكستان وايران وطيف واسع من الرجعيين في المنطقة يريدون المساومة مع بعضهم البعض الآن من اجل فرض حكومة استبدادية ومتخلفة أخرى على جماهير افغانستان. فايران والسعودية وباكستان وشيوخ الخليج، الذين هم اكثر الانظمة العالمية المعاصرة رجعيةً، هم الحلفاء الرسميون والعمليون للغرب في هذا الصراع. وحتى في حالة سقوط الحكومات الاسلامية سيكون البديل الحكومي الذي يطمح له الغرب في المنطقة هو الاحزاب اليمينية الرجعية والانظمة البوليسية والعسكرية

امريكا لا تصنع التاريخ

الا أن الغرب لا يقرر مستقبل هذا المسار، فالسياسة الحالية والاجراءات الامريكية ستغير، شئنا ام ابينا، الاطر السياسية الموجودة في الشرق الاوسط، غير أن علاقات البديل الذي سيتشكل ويتبلور ستحددها وتقررها قوى اخرى. وليس هناك من شك أن مواجهة الغرب مع الاسلام السياسي ستؤدي الى اضعاف الحركة الاسلامية وأحزابها وحكوماتها. الا أن هذا الصراع لا يتبلور ويتجسم في ميدان وساحة خالية. فالشرق الاوسط، مثلما هو الغرب نفسه، هو ميدان صراع الحركات الاجتماعية الموجودة قبل صراع البرجوازية الغربية مع الاسلام السياسي والتي حددت ملامح المسارات السياسية في المجتمعات المختلفة. صراع الغرب مع الاسلام السياسي، ورغم كل هذه الاهمية التي يمتلكها، ليس القوة المحركة للتاريخ في هذه المجتمعات، بل بالعكس، هو نفسه يتموضع ويتخذ معناه في قلب هذا التاريخ. ان الصراع حول تحديد النظام العالمي الجديد له لاعبيه الأهم. وطبقات اولئك اللاعبين الاجتماعية وحركاتهم السياسية، سواء في الغرب او في الشرق الاوسط، تصطف وتستقطب حول المستقبل السياسي والاقتصادي والثقافي للعالم. هذه الحركات هي التي ستحدد الاتجاه النهائي لهذه المسارات بمعزل عن ارادة قادة الغرب وسياسييه وزعماء الاسلام السياسي.

بشكل مشخص، وبقدر تعلق الامر بالشرق الاوسط، حتى لو كان الغرب يطالب بتراجع جزئي للأسلام السياسيوتعريف اسس تعايش جديد معه، فأن الحركات الاشتراكية والتحررية والعلمانية في المنطقة ستدخل الميدان في ظل الاوضاع الجديدة بمعزل عن اطروحات الغرب ومخططاتها. وكمثال ارى أن الاسلام السياسي سينهار في ايران، ليس من زاوية الغرب يريد مثل ذلك من هذه المواجهة الاخيرة، بل من زاوية أن جماهير ايران وعلى رأسها الشيوعية العمالية ستسقط الحكومة الاسلامية في قلب وبالتزامن مع هذا الصراع الجديد. انهيار الجمهورية الاسلامية ستكون اقوى ضربة توجه لهيكل الاسلام السياسي. فاذا كان حل مسألة فلسطين هو الشرط لازالة الالاسس السياسية والفكرية والثقافية لنمو الاسلام السياسي في الشرق الاوسط وعلى صعيد عالمي، فان انهيار الجمهورية الاسلامية هو الشرط لازالته ولافناءه كحركة متطلعة للسلطة في الشرق الاوسط. وسيتحول الاسلام السياسي على صعيد الشرق الاوسط الىتيار معارض عديم الافق والمستقبل

(البقية في العدد القادم).

منصور حكمت 

ترجمة: يوسف محمد